أهم الاخبارانتهاكات الاحتلالفلسطيني 48

توسّع القمع في الداخل الفلسطيني المحتل : إعادة رسم حدود العمل السياسي بالترهيب

المسار : تسعى إسرائيل، على نحوٍ منهجيّ منذ أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، إلى فرض سياسات الإخراس والترهيب في الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948، وتعمل على قمع أي محاولة للتعبير عن مواقف معارضة لحرب الإبادة على قطاع غزة، أو للاحتجاج على القتل والدمار المتواصلَين. فمنذ اليوم الأول للحرب، منعت السلطات الإسرائيلية التظاهرات، واعتقلت عشرات المواطنين الفلسطينيين على خلفية منشورات في وسائل التواصل الاجتماعي، بزعم أنها تعبّر عن تأييد أو تعاطف مع قطاع غزة وسكّانه.

تعمل إسرائيل، في الأشهر الأخيرة، على توسيع سياسات الإخراس والترهيب بحق الفلسطينيين في الداخل، وتكثيف أشكال القمع الجماعي والفردي، بما يشمل محاولات محو الذاكرة والسيطرة على الوعي والانتماء، إلى جانب تضييق الخناق على مؤسّسات المجتمع المدني، واستخدام الاعتقالات الإدارية (من دون تهم أو محاكمات) ضدّ مواطنين وقيادات سياسية.

منع إحياء مسيرة العودة في ذكرى النكبة

منذ عام 1998، يُحيي الفلسطينيون في الداخل المحتل ذكرى النكبة الفلسطينية (15 مايو/أيار) في يوم “استقلال إسرائيل” (14 مايو)، تحت الشعار الرمزي: “يوم استقلالكم هو يوم نكبتنا”، وينظمون مسيرة عودة كبرى إلى إحدى البلدات الفلسطينية المهجّرة في الداخل، إلى جانب عشرات الزيارات لأهالي القرى المهجّرة إلى بلداتهم الأصلية.

جاءت هذه المبادرات في سياق تجاهل اتفاق أوسلو (1993 بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية) المواطنين الفلسطينيين في الداخل، إذ حوّلهم إلى “مسألة إسرائيلية داخلية”، وأعاد ذلك فتح النقاش حول مكانة الفلسطينيين في الداخل، ومعنى المواطنة في دولة تُعرّف نفسها بأنها دولة “يهودية وديمقراطية”.

رفض الفلسطينيون في الداخل مشاريع “الأسْرَلة” المفروضة عليهم على هامش المجتمع الإسرائيلي وبشروطه، وأكدوا على هويتهم وانتمائهم الوطني، طارحين مشروع “دولة المواطنين” بديلاً للدولة “اليهودية والديمقراطية” التي تكرّس الهيمنة والتفوق اليهودي، وتلغي العلاقة التاريخية والوجودية بين الأرض وسكّانها الأصليين.

لم تنظر إسرائيل منذ عام 1998 بعين الرضا إلى مسيرات العودة في الداخل الفلسطيني المحتل، واعتبرتها تحدياً مباشراً واستفزازاً للمؤسّسة الرسمية. وقد حاولت السلطات الإسرائيلية، عبر السنوات، منع هذه المسيرات بوسائل متعدّدة، سواء من خلال وضع عراقيل أمام إصدار التراخيص اللازمة لتنظيمها، أو من خلال الاعتراضات التي تقدّمت بها البلدات التي يسكن فيها اليهود القريبة من مواقع المسيرات، والتي أُقيمت معظمها على أنقاض القرى المهجّرة. وأحياناً عرقل الاحتلال هذه المسيرات عن طريق تدخل مباشر من قوات الشرطة الإسرائيلية والاعتداء على المشاركين. وفي عام 2011، أقرّ الكنيست (البرلمان الإسرائيلي) قانوناً خاصاً استهدف مباشرةً إحياء ذكرى النكبة، لمنع هذا الإحياء قانونياً (“قانون النكبة” وينص على أن أي مؤسّسة أو جمعية تقوم بفعاليات لإحياء ذكرى “النكبة الفلسطينية” يجري سحب تمويلها أو تقليص ميزانيتها بعد موافقة النائب العام ووزير المالية.

كان من المقرّر العام الحالي أيضاً تنظيم مسيرة العودة في يوم “استقلال إسرائيل”، الذي وافق الأول من مايو (بحسب التقويم العبري)، إلى قرية سبت الفلسطينية المهجّرة في قضاء طبريا، إلّا أن السلطات الإسرائيلية فرضت شروطاً تعجيزية على منظّمي المسيرة، في محاولة واضحة لإفشالها، بحسب “لجنة الدفاع عن حقوق المهجّرين” في الداخل الفلسطيني وأوضحت اللجنة، في بيان الاثنين الماضي، أنه “رغم تقديمنا الطلبات الرسمية وسعينا الجاد لاستيفاء جميع شروط الشرطة، واجهتنا عراقيل ممنهجة وشروط تعجيزية غير مسبوقة”، من هذه الشروط، وفق البيان، “منع رفع العلم الفلسطيني، وتحديد عدد المشاركين بالمئات فقط، إضافة إلى تهديد الشرطة باقتحام مسار المسيرة والمهرجان الختامي لفرض شروطها خلال الحدث”.

أُلغيت مسيرة العودة العام الحالي نتيجة الشروط التعجيزية والعراقيل التي وضعتها السلطات الإسرائيلية

نتيجة هذه الشروط التعجيزية والعراقيل، وتحسّباً لأي اعتداء محتمل من شرطة الاحتلال قد يؤدي إلى سفك دماء الفلسطينيين في الداخل، قرّرت لجنة الدفاع عن حقوق المهجّرين إلغاء مسيرة العودة للعام الحالي. ودعت بدلاً من ذلك إلى تنظيم زيارات إلى البلدات المهجّرة في مختلف المناطق، وبذلك، تكون هذه أول مرة منذ 28 عاماً لا تُنظَّم فيها مسيرة العودة في الداخل الفلسطيني المحتل، بالتزامن مع إحياء إسرائيل “يوم استقلالها”.

اعتقالات إدارية في الداخل الفلسطيني

وفق مؤسّسة “بتسيلم – مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة” (يسارية)، يُعرَّف الاعتقال الإداري بأنه توقيف واحتجاز شخص دون محاكمة، بذريعة أنه يعتزم في المستقبل ارتكاب فعل مخالف للقانون، رغم عدم ارتكابه أي مخالفة حتى لحظة اعتقاله. وبما أن هذا النوع من الاعتقال يُقدَّم على أنه إجراء وقائي، فلا يُحدَّد له عادةً سقف زمني واضح، ما يتيح إمكانية تمديده إلى أجل غير مسمى.

يُنفَّذ الاعتقال الإداري في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967 دون محاكمة، استناداً إلى أمر يصدره قائد المنطقة العسكرية، وبالاعتماد على أدلة وبيّنات سرّية لا يُسمح حتى للمعتقل نفسه أو لمحاميه بالاطلاع عليها. وعلى خلاف سكان الضفة الغربية المحتلة، يُنفَّذ الاعتقال الإداري بحق المواطنين والسكان الإسرائيليين (في الداخل الفلسطيني المحتل) بموجب “قانون صلاحيات أوقات الطوارئ (الاعتقالات)”، الذي يمنح الحق لوزير الأمن بإصدار أوامر اعتقال إداري أيضاً “لمواطني دولة إسرائيل”، ويستند إلى أوامر الطوارئ الموروثة من فترة الانتداب البريطاني، وعلى مرّ السنين، استخدمت إسرائيل هذا القانون لاعتقال عدد من المواطنين، بمن فيهم مستوطنون.

إلّا أنه، ومع تسلُّم يسرائيل كاتس منصب وزير الأمن، في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، ألغى جميع أوامر الاعتقال الإداري الصادرة بحق المستوطنين، بينما أبقى العمل بهذه الأداة بحق الفلسطينيين في الداخل فحسب، بل وسّع نطاق استخدامها على نحوٍ ملحوظ.

منذ اندلاع الحرب على قطاع غزة، أصدر وزيرا الأمن الإسرائيلي (كاتس وسلفه يوآف غالانت) نحو 25 أمر اعتقال إداري بحق فلسطينيين، تتراوح فترات اعتقالهم بين شهر واحد وستة أشهر، وذلك بحسب معطيات جمعها موقع عرب 48. يُعد هذا التصعيد لافتاً مقارنة بثلاث حالات اعتقال إداري فحسب سُجّلت خلال “هبة الكرامة” في مايو 2021 (في الداخل الفلسطيني المحتل بالتزامن مع الحرب على غزة).

وكان الاستخدام الأبرز لأداة الاعتقال الإداري، في الأشهر الأخيرة، اعتقال رجا إغبارية، القيادي السياسي في حركة أبناء البلد، خلال إبريل/نيسان الماضي، ليكون بذلك أول اعتقال إداري يستهدف شخصية سياسية منذ عقود. ويمثل هذا الاعتقال تصعيداً خطيراً في سياسات القمع، إذ توسّع إسرائيل استخدام أدواتها القمعية لتطاول القيادات السياسية في الداخل الفلسطيني المحتل، بعد أن كانت موجهة أساساً لإخراس وترهيب عموم الفلسطينيين.

التضييق على جمعيات المجتمع المدني

في سياق محاولات التضييق على العمل السياسي ومحاولات مناهضة سياسات التمييز والقمع التي تُمارَس ضد المواطنين الفلسطينيين، برزت خطوة تشريعية إضافية تهدف إلى تقييد عمل مؤسسات المجتمع المدني، لا سيّما المؤسسات العربية الناشطة في مجال حقوق الإنسان. في فبراير/شباط الماضي، صادقت الهيئة العامة للكنيست، في قراءة تمهيدية (يحتاج أي قانون إلى قراءة تمهيدية وثلاث قراءات قَبل إقراره)، على مقترح قانون خاص قدّمه عضو الكنيست أريئيل كالنر (من حزب الليكود الذي يتزعمه بنيامين نتنياهو)، لتعديل قانون الجمعيات، تحت عنوان: “اقتراح قانون الجمعيات (تبرّع من كيان سياسي أجنبي)، لسنة 2024”.

ويقترح هذا التعديل فرض قيود مشدّدة على الجمعيات التي تتلقى تمويلاً من دول أو كيانات سياسية أجنبية، ما يُشكّل تهديداً مباشراً لحيّز النشاط المدني، وخصوصاً للجمعيات التي توثّق الانتهاكات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة أو تنتقد السياسات الحكومية الإسرائيلية.

يمكن القول إنّ الهدف الأساسي من اقتراح القانون هو استهداف الجمعيات العربية، إلى جانب عدد من الجمعيات الإسرائيلية المعارضة للسياسات الحكومية، التي تنشط في مجالات حقوق الإنسان، والحقوق الاجتماعية والسياسية. وتتميّز هذه الجمعيات بكونها تلجأ في كثير من الحالات إلى المسار القضائي، سواء عبر تقديم التماسات ضد سياسات حكومية، أو الطعن في قرارات تتعلق بالاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، كما تطعن بقرارات مصادرة الأراضي، ومنع لمّ شمل العائلات الفلسطينية، وحرمان الفلسطينيين من حقوق أساسية، إلى جانب الاعتراض على ممارسات الجيش الإسرائيلي أثناء الحروب، خصوصاً تلك التي تشنّها إسرائيل على قطاع غزة.

فرض ضريبة بنسبة 80% على التبرعات الأجنبية يُعد بمثابة حكم فعلي بإغلاق هذه المؤسّسات ومنعها من أداء دورها وواجبها الحقوقي والرقابي. في المقابل، لا ينطبق اقتراح القانون على التبرعات الأجنبية من جهات خاصة، التي تُعد قناة التمويل الأساسية لجمعيات ومنظمات اليمين الإسرائيلي.

في الخلاصة، يمكن القول إنّ إسرائيل، عبر أجهزتها الأمنية والسياسية، لا تكتفي بقمع مواقف المجتمع الفلسطيني في الداخل الرافضة للحرب على قطاع غزة، ومنع التظاهرات، وملاحقة الطلاب الجامعيين، والفنانين، والسياسيين، وكل من يعبّر عن موقف معارض لحرب الإبادة. بل تستغل الوضع الناشئ بعد السابع من أكتوبر 2023، وحالة الإجماع الواسع في المجتمع الإسرائيلي الداعم للحرب والمطالب بالانتقام من كل ما هو فلسطيني، ومن غياب أي معارضة برلمانية فعّالة، لفرض معادلات جديدة على العمل السياسي للفلسطينيين في الداخل، وتهدف هذه المعادلات إلى خفض سقف المطالب السياسية، وتجريم الهوية الوطنية والانتماء الفلسطيني.

ولا يمكن فصل هذا التصعيد الداخلي عن المشروع الأوسع الذي تسعى إسرائيل إلى تنفيذه في المنطقة، عبر تغيير الحالة الاستراتيجية وفرض واقع ميداني جديد في الضفة الغربية، من خلال توسيع الاستيطان، وإطلاق يد المستوطنين للاعتداء على الفلسطينيين، وتجريم كل أشكال النضال السياسي ضد الاحتلال. وفي قطاع غزة، تعمل إسرائيل على تدمير شامل للبنية المجتمعية والعمرانية، وتسعى إلى تحقيق أهدافها الخفية والمعلنة بتهجير السكان، بما يشكّل نقطة تحوّل خطيرة في المشروع الاستعماري الإسرائيلي، ومساعي تقويض أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية مستقلة وقابلة للحياة.

المصدر : العربي الجديد