
د. عادل مناع: “عندما أتحدث عن المدينة الفلسطينية، أبدأ عادة بظاهر العمر، لأن عهده يمثل بداية الحداثة وإقامة مدن الساحل، لتأكيد حقيقة أن تطور المدن الفلسطينية سابق على وقوع البلاد تحت الاستعمار البريطاني، وحتى قبل القرن التاسع عشر أيضًا”.
من طبرية عام 1896 (Gettyimages)
المسار : هناك شعور بأن المدينة الفلسطينية قد ظُلمت تاريخيًا، حيث غُيِّبت أو لم تحظَ بالقسط الذي تستحقه في أدبيات النكبة، بما يتلاءم مع حجمها ودورها ومكانتها. وقد كان غسان كنفاني رائدًا في هذا المجال أيضًا، عندما تفرد في إلقاء الضوء، في روايته “عائد إلى حيفا”، على بعض جوانب حياة المدينة الفلسطينية، واصفًا، في مشهد بانورامي وبأسلوب درامي، عملية تهجير سكان حيفا الفلسطينيين ودفعهم نحو البحر، حيث كانت تنتظرهم سفن التهجير.
في السنوات الأخيرة، تجري ما يشبه عملية تعويض، حيث يتناول العديد من الباحثين والباحثات مسألة غياب أو تغييب المدينة الفلسطينية وتداعيات ذلك على مستويات مختلفة، وخاصة أثر هذا الغياب على ما تبقى من فلسطينيين داخل المساحة التي أُقيمت عليها دولة إسرائيل.
في ورقة بعنوان “بقايا: مصائر المدينة الفلسطينية في إسرائيل بعد النكبة”، يحاول المؤرخ عادل مناع تتبع مصائر بقايا سكان المدن الساحلية العرب (عكا، حيفا، يافا، اللد، والرملة)، كما يقول، والتي صارت تُدعى “مدنًا مختلطة” خلال العقد الأول بعد النكبة، ويشير باقتضاب إلى مصائر خمس مدن أخرى (صفد، طبريا، بيسان، المجدل، وبئر السبع) تم تهجير جميع أهلها الفلسطينيين، فصارت مدنًا إسرائيلية خالية من سكانها الأصلانيين تمامًا.
الدراسة، التي نُشرت في كتاب “المدينة الفلسطينية: قضايا في التحولات الحضرية”، الذي حرّره مجدي المالكي وسليم تماري، ورغم أنها تتمحور حول آثار غياب المدينة العربية على البقية الباقية من الفلسطينيين الذين نجوا من الطرد والتهجير، وعاشوا بغالبيتهم في قرى الجليل والمثلث تحت الحكم العسكري، فإنها تناولت تطور المدينة الفلسطينية منذ أواخر العهد العثماني، مشيرة إلى ما شهده النصف الثاني من القرن التاسع عشر من تحولات جذرية في الإدارة العثمانية والاقتصاد (الاندماج في السوق العالمية)، وانعكاس تلك التحولات إيجابيًا على مدن فلسطين، وخاصة الساحلية منها (يافا، حيفا)، وكذلك القدس التي صارت، كما يقول الكاتب، عاصمة فعلية للبلاد، وإلى نمو سكان المدن ليصلوا إلى ربع سكان فلسطين عشية سقوط الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، منوهة إلى أن نمو المدن بشكل كبير في أواسط القرن التاسع عشر جرى قبل بداية الهجرة الصهيونية عام 1882.
وتفيد الورقة أنه من أصل إحدى عشرة مدينة فلسطينية احتلتها إسرائيل سنة 1948، نجت واحدة ووحيدة فقط (الناصرة)، وظلت بقايا فلسطينية قليلة من سكان خمس مدن أخرى، تراوح تعداد ما تبقى من الفلسطينيين فيها بعد النكبة مباشرة بين بضعة آلاف في كل من عكا، حيفا، ويافا، وبضع مئات في كل من مدينتي اللد والرملة. كما أن تلك المدن (ما عدا عكا) خسرت سكان ريفها، فصارت بلا رديف ممكن للهجرة إليها واستعادة عافيتها.
وبهذا الصدد، حاور “عرب 48” د. عادل مناع لإلقاء المزيد من الضوء حول الموضوع.

“عرب 48”: لم يقتصر غياب المدينة الفلسطينية على أدبيات النكبة فقط، بل جرى تغييبها أيضًا من الأدبيات الصهيونية التي حاولت إظهار المجتمع العربي في فلسطين كأنه مجرد مجموعة من الفلاحين البدائيين والبدو؟
د. مناع: من الواضح أن من جاء تحت مقولة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” سيحاول أن يرسم صورة مطابقة تظهر أن فلسطين كانت فارغة، خلا من مجموعات مبعثرة من البدو والقبائل والحمائل، وأن لا يأتي على ذكر المدينة بما تحمله من تطور اقتصادي، اجتماعي، ثقافي وعمراني. هذا ما كان عليه حال حيفا ويافا وغيرها من مدن فلسطين التي وقعت تحت السيطرة الصهيونية، حيث جرى تطهير بعضها عرقيًا من العرب بشكل تام، مثل بيسان، طبريا، صفد، المجدل وبئر السبع، وترك بقايا لا تتجاوز أعدادهم بضعة آلاف في كل من يافا، حيفا، وعكا، وبضع مئات في اللد والرملة. جرى تجميعهم وحشرهم في “غيتوات”، وفرض الحكم العسكري عليهم، بينما كانت المدينة الوحيدة التي نجت هي الناصرة، وذلك لأسباب مختلفة.
“عرب 48”: يجمع الباحثون والمؤرخون من العرب والأجانب واليهود، الذين لم يقعوا تحت تأثير الدعاية الصهيونية، على أن المدن شكلت نسبة عالية من سكان فلسطين قياسًا بالحقبة الزمنية وبالمنطقة المحيطة (الشرق الأوسط)، وأن مسار تطورها يمتد لعقود وربما قرون سابقة، وأنها كانت تضاهي وتنافس مدنًا لبنانية مثل صيدا وبيروت؟
د. مناع: عندما أتحدث عن المدينة الفلسطينية، أبدأ عادة بظاهر العمر، لأن عهده يمثل بداية الحداثة وإقامة مدن الساحل، لتأكيد حقيقة أن تطور المدن الفلسطينية سابق على وقوع البلاد تحت الاستعمار البريطاني، وحتى قبل القرن التاسع عشر أيضًا. ذلك لأن المستشرقين والصهاينة يركّزون على أن الحداثة وإقامة المدن جاء بفعل قدوم الاستعمار البريطاني أو الصهيونية أو الاثنين معًا، والمقصود بذلك إرجاعه إلى عوامل خارجية، وليس إلى تطور طبيعي لأهل البلاد.
ظاهر العمر أقام أولًا طبريا كمدينة حديثة وجعلها عاصمة له، ثم انتقل غربًا بشكل تدريجي حتى تحولت عكا إلى عاصمة لمملكته منذ عام 1748، وصارت مدينة زاخرة ببناياتها منيعة بأسوارها التي عززها الجزار، فصدّت نابليون في حملته على الشرق عام 1799. وتحولت عكا في تلك الفترة إلى ميناء مهم جدًا، وانتقل إليها، في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، من صيدا مركز الحكم والإدارة، وذلك خلال فترة ظاهر العمر وفترة الجزار.
امتد النهوض المديني الذي ميّز تلك الفترة ليشمل حيفا، حيث أقام ظاهر العمر “حيفا الجديدة”، التي ازدادت تطورًا في القرن التاسع عشر والقرن العشرين. ومن الجدير التنويه إلى أهمية تلك الفترة في تطور المدن الساحلية، لأنها تعبر عن بداية الحداثة وحدوث تحولات تختلف عما كان عليه الحال في بدايات العهد العثماني، وخاصة العهد المملوكي.
حيفا ويافا أصبحتا أهم مدينتين على الساحل، علمًا أن حيفا، رغم علوّ شأنها في القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، تراجعت لاحقًا، لأن بيروت تجاوزتها، فأصبحت المدينة المهمة في الشمال وصارت هي عاصمة الإدارة.
لكن خلال كل تلك الفترة الممتدة حتى عام 1948، بقيت حيفا ويافا الساحليتين مدينتي ميناء، ازدهرتا ونما عدد سكانهما بشكل مضطرد، إذ قُدّر عدد سكانهما الفلسطينيين عشية النكبة بـ 70 ألف نسمة لكل منهما.
“عرب 48”: لكن حيفا كانت مدينة مختلطة، ما يقارب نصف سكانها من اليهود، ويافا كان يسكنها الكثير من اليهود أيضًا؟
د. مناع: قبل الانتقال إلى هذا الموضوع، من الجدير التنويه إلى أن أهمية مدينتي حيفا ويافا كمدن ميناء تكمن في كونهما تشكلان بوابات على العالم وعلى الحداثة، فالموانئ لم تكن وظيفتها تصدير واستيراد البضائع فقط، بل هي وسيلة تواصل مع العالم. وبهذا المعنى، لم تكن يافا تصدر الحمضيات عبر مينائها فقط، بل كانت بوابة على الانفتاح والحداثة، وكذلك حيفا.
وللإجابة عن السؤال، فقد سكن حيفا فعلاً عدد مماثل لسكانها الفلسطينيين من اليهود، وسكن في يافا ما بين 30-40 ألف يهودي أيضًا، ناهيك عن تل أبيب الملاصقة لها، التي تأسست عام 1909، وبلغ عدد سكانها عشية النكبة 230 ألف نسمة. هذا فيما بلغ عدد سكان القدس العرب 60 ألف نسمة، وعدد سكانها اليهود 100 ألف نسمة، أي أنها كانت ثاني تجمع يهودي صهيوني بعد تل أبيب، وشكلت كمدينة داخلية الضلع الثالث في هذا المثلث.
هذه المدن الثلاث شكّلت، من ناحية النمو والتوسع، أهم مدن فلسطين، ولذلك كانت الخطة الصهيونية تقضي بالسيطرة عليها في فترة متقدمة من “الحرب”.
“عرب 48”: في نظرة إلى الوراء، نستنتج أن النمو السكاني اليهودي الصهيوني المتسارع داخل هذه المدن وفي محيطها (تل أبيب) يدل على خطة مسبقة للسيطرة على المراكز الحضرية، وإلا فكيف أصبح خلال فترة وجيزة نصف سكان حيفا من اليهود، وفاق عدد السكان اليهود عدد السكان العرب في القدس، بينما صارت تل أبيب، المدينة اللصيقة بيافا، المدينة الأكبر في فلسطين؟
د. مناع: هذا صحيح، ومن الواضح من الأبحاث أيضًا، أنه لكي يتم تغيير طبيعة البلاد (فلسطين) لتصبح دولة لليهود حسب الخطة الصهيونية، يجب أن تتغير الجغرافيا والديمغرافيا، ثم الاقتصاد والسياسة وأمور كثيرة أخرى. والديمغرافيا هي بلا شك عامل أساسي، وعندما لا يكون لديك كمّ ديمغرافي كبير، عليك أن تختار مناطق محددة استراتيجية وتُركّز فيها الهجرة والاستيطان.
من هذه الناحية، كان من المعروف أن الاستيطان الصهيوني أخذ مناطق محددة من الشمال إلى الجنوب، من سهل الحولة شمالًا، مرورًا بطبريا ومرج بن عامر، ثم من هناك إلى الساحل، وليس صدفة أن اقتراح التقسيم الأول من عام 1937 كان يضم هذه المنطقة بالضبط.
“عرب 48”: إذًا هي الخطة الصهيونية، وليس النمو الطبيعي للمدن، هو ما جلب هذه الكثافة السكانية اليهودية التي عدّلت الميزان الديمغرافي فيها وفي محيطها لصالح الاستيطان الصهيوني، كما تقول. ولكن في أي فترة حدث ذلك؟ وما هو الحيز الزمني؟
د. مناع: لا شك أن الكثافة السكانية الأكبر لوجود الاستيطان الكولونيالي اليهودي الصهيوني حدثت بعد الحرب العالمية الأولى وصدور وعد بلفور، حيث تشير التقديرات إلى أنه قبل هذا التاريخ كان في فلسطين 80-85 ألف يهودي في الحد الأقصى، وهناك من يعتقد أن الرقم أقل من ذلك، كما أن هذا العدد انخفض خلال الحرب. لكن المتفق عليه، حسب كل الأبحاث الصهيونية والأوروبية والعربية، أن عدد السكان اليهود في فلسطين لم يتجاوز قبل الحرب العالمية الأولى وصدور وعد بلفور نسبة 10% من مجموع السكان.
إذا سلّمنا بهذه الحقيقة، نستنتج أنه خلال 30 سنة من الحكم البريطاني، ارتفع هذا العدد من 10% إلى ثلث السكان عشية النكبة.
في الجهة المقابلة، شكّلت المدن الفلسطينية ثلث سكان فلسطين العرب، وشكّلت المدينة مركز الاقتصاد، فهناك مكان العمل، وهناك المصانع والمتاجر، إضافة إلى دورها الخدمي والثقافي، حيث تنمو وتستقر فيها النخب السياسية والأحزاب والقيادات.
لذلك، فإن احتلال المدن وتهجير سكانها جعل البقية الباقية في منطقة 48 تخسر القيادات والنخب السياسية والثقافية، إضافة إلى المراكز الاقتصادية. وهذه النقطة مهمة في فهم الواقع الذي عاشه من تبقى في الداخل بعد النكبة.
“عرب 48”: ربما تعود بعض أسباب ظلم المدينة الفلسطينية وتغييبها في أدبيات النكبة، إلى العتب على أنها لم تلعب الدور المنوط بها في الصمود، بل إن بعض البرجوازية الفلسطينية هاجرت من تلقاء نفسها قبل بداية الأحداث؟
د. مناع: يمكن أن نتهم المدينة، ويمكن أن نتهم النخب، وباعتقادي الشخصي، فإن التهمة يجب أن توجَّه أكثر إلى النخب السياسية والنخب عمومًا. وكما هو معروف، فإن القيادة الفلسطينية، قيادة الحركة الوطنية خلال كل فترة الانتداب، كانت تتمركز أساسًا في القدس وفي المدن الكبيرة الأخرى التي كان لها تمثيل في الهيئة العربية واللجنة العربية والمؤتمرات الوطنية المختلفة التي جرت منذ سنة 1918.
يمكن توجيه الاتهام إلى الأحزاب التي وقعت في فخ سياسة “فرّق تسد” البريطانية، وانهمكت في الصراع العائلي بين حزبي الحسيني والنشاشيبي، وهو ما فتّ في عضد المجتمع الفلسطيني عمومًا. ثم إن هذه القيادة، عندما بدأت “الحرب”، غالبيتها تركت فلسطين بحجة الذهاب لجلب السلاح، وهذا ما دفع قطاعات من المثقفين وقطاعات من البرجوازية، الذين شعروا بأنهم بقوا دون قيادة، إلى المغادرة نحو بيروت ودمشق والقاهرة، ظنًّا منهم أن ما يحدث هو موجة عابرة، وأنهم سيعودون بعد مرورها.
لم يتوقع أحد أن هذه المرة ستكون مختلفة، وأن هناك خطر تطهير عرقي، وأن كل من يخرج لن تسمح له الدولة اليهودية لاحقًا بالعودة إلى أرضه وبيته. وهذه التجربة كانت تجربة مرّة جدًّا للفلسطينيين، وهي تجربة ملهمة لأهالي غزة اليوم الذين يرفضون ترك ديارهم رغم القتل والقصف والدمار، خاصة إذا ما علمنا أن ثلثي أهلها لاجئون من منطقة جنوب يافا.
“عرب 48”: معروف تاريخيًّا منذ ثورة 36–39 أن الدور الأساسي في المقاومة المسلحة كان للفلاحين وسكان الريف الفلسطيني، علمًا أن القيادة السياسية هي من النخب المدينية؟
د. مناع: صحيح أن الغالبية الساحقة من المقاومة المسلحة للحركة الصهيونية وبريطانيا منذ ثورة 36–39 كانت فلاحية، لكن كلنا يذكر بعض رموز المقاومة المسلحة من أصول مدينية، أمثال عبد القادر الحسيني وأمثاله من القدس ونابلس والخليل واللد والرملة.
إلا أنه من الجدير بالذكر أن كل المقاومين الذين كانوا يحملون السلاح عام 48 لم يتعدَّ عددهم أربعة إلى خمسة آلاف مسلح من مليون وثلاثمئة ألف فلسطيني، وهذا لم يأتِ من فراغ، بل كان نتيجة سياسة المنع المستمر من قبل الحكومة البريطانية لأي مظهر من مظاهر مقاومة المشروع الصهيوني والسياسة البريطانية، ونتاج قمع ثورة 36، وخاصة مرحلتها الثانية في 38–39، بشكل عنيف ومميت جدًّا، إضافة إلى العقوبات الجماعية على القرى والمدن، وقتل أعداد ضخمة من الثوار.
“عرب 48”: هناك من يدّعي أن بريطانيا هزمت الحركة الوطنية الفلسطينية في الـ36–39، لذلك كانت الـ48 تحصيل حاصل؟
د. مناع: صحيح، بريطانيا عشية الحرب العالمية الثانية أرادت إنهاء هذه الثورة في فلسطين بكل ثمن، وتعاونت مع الحركة الصهيونية بهذا الشأن، فجلبت قوات كبيرة، وقامت بقمع الثورة بشكل عسكري فظ. وهناك كثير من المؤرخين يعتقدون أنه تم كسر ظهر المقاومة الفلسطينية المسلحة، وعندما جاء عام 48، واندلعت الحرب على مستقبل فلسطين مع الحركة الصهيونية المنظمة، التي كانت تمتلك أعدادًا ضخمة من المقاتلين المدربين والمسلحين، بعد أن سمحت لها بريطانيا بإقامة منظمات عسكرية مدرّبة مثل “الهاغاناه” وغيرها، لم يكن لدى الفلسطينيين قوة لمواجهتها. ولذلك صار أملهم الوحيد معقودًا على الجيوش العربية، علمًا أن الجيوش العربية ذاتها لم تكن جاهزة لحرب من هذا النوع.
“عرب 48”: هذا ناهيك عن التواطؤ البريطاني مع الحركة الصهيونية في عملية التهجير، كما ذكرت، وخاصة سكان المدن، حيث جرى تهجير حيفا ويافا قبل انتهاء ولاية الانتداب وانسحاب الجيش البريطاني من فلسطين في 15 أيار 48؟
د. مناع: حيفا ويافا وطبريا وبيسان وعكا جرى احتلالها من قبل المنظمات الصهيونية قبل انتهاء الانتداب البريطاني في منتصف أيار، وبريطانيا، التي كانت متواطئة مع الحركة الصهيونية منذ وعد بلفور 1917، بدا تواطؤها واضحًا للعيان عند احتلال أول مدينتين، وهما طبريا وحيفا، حيث جرى تهجير سكان طبريا بالتواطؤ مع الوجود البريطاني في المدينة، وساعدوهم في النزوح إلى الأردن. وقضية حيفا وتهجير أهلها (في 22/4) مشهورة، إذ تمّ ذلك عن طريق الميناء، وبعد أسبوع، أي في (أوائل أيار)، جرى تهجير أهالي يافا.
د. عادل مناع: مؤرخ فلسطيني متخصص في تاريخ فلسطين خلال العهد العثماني، والفلسطينيين في القرن العشرين. عمل لأربعة عقود، منذ بداية الثمانينيات، أستاذًا للتاريخ في عدة جامعات محلية وعالمية، وله عشرة كتب وعشرات المقالات، أبرزها كتاب “نكبة وبقاء” المنشور باللغات الثلاث: العربية، والعبرية، والإنجليزية.
هناك شعور بأن المدينة الفلسطينية قد ظُلمت تاريخيًا، حيث غُيِّبت أو لم تحظَ بالقسط الذي تستحقه في أدبيات النكبة، بما يتلاءم مع حجمها ودورها ومكانتها. وقد كان غسان كنفاني رائدًا في هذا المجال أيضًا، عندما تفرد في إلقاء الضوء، في روايته “عائد إلى حيفا”، على بعض جوانب حياة المدينة الفلسطينية، واصفًا، في مشهد بانورامي وبأسلوب درامي، عملية تهجير سكان حيفا الفلسطينيين ودفعهم نحو البحر، حيث كانت تنتظرهم سفن التهجير.
في السنوات الأخيرة، تجري ما يشبه عملية تعويض، حيث يتناول العديد من الباحثين والباحثات مسألة غياب أو تغييب المدينة الفلسطينية وتداعيات ذلك على مستويات مختلفة، وخاصة أثر هذا الغياب على ما تبقى من فلسطينيين داخل المساحة التي أُقيمت عليها دولة إسرائيل.
في ورقة بعنوان “بقايا: مصائر المدينة الفلسطينية في إسرائيل بعد النكبة”، يحاول المؤرخ عادل مناع تتبع مصائر بقايا سكان المدن الساحلية العرب (عكا، حيفا، يافا، اللد، والرملة)، كما يقول، والتي صارت تُدعى “مدنًا مختلطة” خلال العقد الأول بعد النكبة، ويشير باقتضاب إلى مصائر خمس مدن أخرى (صفد، طبريا، بيسان، المجدل، وبئر السبع) تم تهجير جميع أهلها الفلسطينيين، فصارت مدنًا إسرائيلية خالية من سكانها الأصلانيين تمامًا.
الدراسة، التي نُشرت في كتاب “المدينة الفلسطينية: قضايا في التحولات الحضرية”، الذي حرّره مجدي المالكي وسليم تماري، ورغم أنها تتمحور حول آثار غياب المدينة العربية على البقية الباقية من الفلسطينيين الذين نجوا من الطرد والتهجير، وعاشوا بغالبيتهم في قرى الجليل والمثلث تحت الحكم العسكري، فإنها تناولت تطور المدينة الفلسطينية منذ أواخر العهد العثماني، مشيرة إلى ما شهده النصف الثاني من القرن التاسع عشر من تحولات جذرية في الإدارة العثمانية والاقتصاد (الاندماج في السوق العالمية)، وانعكاس تلك التحولات إيجابيًا على مدن فلسطين، وخاصة الساحلية منها (يافا، حيفا)، وكذلك القدس التي صارت، كما يقول الكاتب، عاصمة فعلية للبلاد، وإلى نمو سكان المدن ليصلوا إلى ربع سكان فلسطين عشية سقوط الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، منوهة إلى أن نمو المدن بشكل كبير في أواسط القرن التاسع عشر جرى قبل بداية الهجرة الصهيونية عام 1882.
وتفيد الورقة أنه من أصل إحدى عشرة مدينة فلسطينية احتلتها إسرائيل سنة 1948، نجت واحدة ووحيدة فقط (الناصرة)، وظلت بقايا فلسطينية قليلة من سكان خمس مدن أخرى، تراوح تعداد ما تبقى من الفلسطينيين فيها بعد النكبة مباشرة بين بضعة آلاف في كل من عكا، حيفا، ويافا، وبضع مئات في كل من مدينتي اللد والرملة. كما أن تلك المدن (ما عدا عكا) خسرت سكان ريفها، فصارت بلا رديف ممكن للهجرة إليها واستعادة عافيتها.
وبهذا الصدد، حاور “عرب 48” د. عادل مناع لإلقاء المزيد من الضوء حول الموضوع.

“عرب 48”: لم يقتصر غياب المدينة الفلسطينية على أدبيات النكبة فقط، بل جرى تغييبها أيضًا من الأدبيات الصهيونية التي حاولت إظهار المجتمع العربي في فلسطين كأنه مجرد مجموعة من الفلاحين البدائيين والبدو؟
د. مناع: من الواضح أن من جاء تحت مقولة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” سيحاول أن يرسم صورة مطابقة تظهر أن فلسطين كانت فارغة، خلا من مجموعات مبعثرة من البدو والقبائل والحمائل، وأن لا يأتي على ذكر المدينة بما تحمله من تطور اقتصادي، اجتماعي، ثقافي وعمراني. هذا ما كان عليه حال حيفا ويافا وغيرها من مدن فلسطين التي وقعت تحت السيطرة الصهيونية، حيث جرى تطهير بعضها عرقيًا من العرب بشكل تام، مثل بيسان، طبريا، صفد، المجدل وبئر السبع، وترك بقايا لا تتجاوز أعدادهم بضعة آلاف في كل من يافا، حيفا، وعكا، وبضع مئات في اللد والرملة. جرى تجميعهم وحشرهم في “غيتوات”، وفرض الحكم العسكري عليهم، بينما كانت المدينة الوحيدة التي نجت هي الناصرة، وذلك لأسباب مختلفة.
“عرب 48”: يجمع الباحثون والمؤرخون من العرب والأجانب واليهود، الذين لم يقعوا تحت تأثير الدعاية الصهيونية، على أن المدن شكلت نسبة عالية من سكان فلسطين قياسًا بالحقبة الزمنية وبالمنطقة المحيطة (الشرق الأوسط)، وأن مسار تطورها يمتد لعقود وربما قرون سابقة، وأنها كانت تضاهي وتنافس مدنًا لبنانية مثل صيدا وبيروت؟
د. مناع: عندما أتحدث عن المدينة الفلسطينية، أبدأ عادة بظاهر العمر، لأن عهده يمثل بداية الحداثة وإقامة مدن الساحل، لتأكيد حقيقة أن تطور المدن الفلسطينية سابق على وقوع البلاد تحت الاستعمار البريطاني، وحتى قبل القرن التاسع عشر أيضًا. ذلك لأن المستشرقين والصهاينة يركّزون على أن الحداثة وإقامة المدن جاء بفعل قدوم الاستعمار البريطاني أو الصهيونية أو الاثنين معًا، والمقصود بذلك إرجاعه إلى عوامل خارجية، وليس إلى تطور طبيعي لأهل البلاد.
ظاهر العمر أقام أولًا طبريا كمدينة حديثة وجعلها عاصمة له، ثم انتقل غربًا بشكل تدريجي حتى تحولت عكا إلى عاصمة لمملكته منذ عام 1748، وصارت مدينة زاخرة ببناياتها منيعة بأسوارها التي عززها الجزار، فصدّت نابليون في حملته على الشرق عام 1799. وتحولت عكا في تلك الفترة إلى ميناء مهم جدًا، وانتقل إليها، في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، من صيدا مركز الحكم والإدارة، وذلك خلال فترة ظاهر العمر وفترة الجزار.
امتد النهوض المديني الذي ميّز تلك الفترة ليشمل حيفا، حيث أقام ظاهر العمر “حيفا الجديدة”، التي ازدادت تطورًا في القرن التاسع عشر والقرن العشرين. ومن الجدير التنويه إلى أهمية تلك الفترة في تطور المدن الساحلية، لأنها تعبر عن بداية الحداثة وحدوث تحولات تختلف عما كان عليه الحال في بدايات العهد العثماني، وخاصة العهد المملوكي.
حيفا ويافا أصبحتا أهم مدينتين على الساحل، علمًا أن حيفا، رغم علوّ شأنها في القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، تراجعت لاحقًا، لأن بيروت تجاوزتها، فأصبحت المدينة المهمة في الشمال وصارت هي عاصمة الإدارة.
لكن خلال كل تلك الفترة الممتدة حتى عام 1948، بقيت حيفا ويافا الساحليتين مدينتي ميناء، ازدهرتا ونما عدد سكانهما بشكل مضطرد، إذ قُدّر عدد سكانهما الفلسطينيين عشية النكبة بـ 70 ألف نسمة لكل منهما.
“عرب 48”: لكن حيفا كانت مدينة مختلطة، ما يقارب نصف سكانها من اليهود، ويافا كان يسكنها الكثير من اليهود أيضًا؟
د. مناع: قبل الانتقال إلى هذا الموضوع، من الجدير التنويه إلى أن أهمية مدينتي حيفا ويافا كمدن ميناء تكمن في كونهما تشكلان بوابات على العالم وعلى الحداثة، فالموانئ لم تكن وظيفتها تصدير واستيراد البضائع فقط، بل هي وسيلة تواصل مع العالم. وبهذا المعنى، لم تكن يافا تصدر الحمضيات عبر مينائها فقط، بل كانت بوابة على الانفتاح والحداثة، وكذلك حيفا.
وللإجابة عن السؤال، فقد سكن حيفا فعلاً عدد مماثل لسكانها الفلسطينيين من اليهود، وسكن في يافا ما بين 30-40 ألف يهودي أيضًا، ناهيك عن تل أبيب الملاصقة لها، التي تأسست عام 1909، وبلغ عدد سكانها عشية النكبة 230 ألف نسمة. هذا فيما بلغ عدد سكان القدس العرب 60 ألف نسمة، وعدد سكانها اليهود 100 ألف نسمة، أي أنها كانت ثاني تجمع يهودي صهيوني بعد تل أبيب، وشكلت كمدينة داخلية الضلع الثالث في هذا المثلث.
هذه المدن الثلاث شكّلت، من ناحية النمو والتوسع، أهم مدن فلسطين، ولذلك كانت الخطة الصهيونية تقضي بالسيطرة عليها في فترة متقدمة من “الحرب”.
“عرب 48”: في نظرة إلى الوراء، نستنتج أن النمو السكاني اليهودي الصهيوني المتسارع داخل هذه المدن وفي محيطها (تل أبيب) يدل على خطة مسبقة للسيطرة على المراكز الحضرية، وإلا فكيف أصبح خلال فترة وجيزة نصف سكان حيفا من اليهود، وفاق عدد السكان اليهود عدد السكان العرب في القدس، بينما صارت تل أبيب، المدينة اللصيقة بيافا، المدينة الأكبر في فلسطين؟
د. مناع: هذا صحيح، ومن الواضح من الأبحاث أيضًا، أنه لكي يتم تغيير طبيعة البلاد (فلسطين) لتصبح دولة لليهود حسب الخطة الصهيونية، يجب أن تتغير الجغرافيا والديمغرافيا، ثم الاقتصاد والسياسة وأمور كثيرة أخرى. والديمغرافيا هي بلا شك عامل أساسي، وعندما لا يكون لديك كمّ ديمغرافي كبير، عليك أن تختار مناطق محددة استراتيجية وتُركّز فيها الهجرة والاستيطان.
من هذه الناحية، كان من المعروف أن الاستيطان الصهيوني أخذ مناطق محددة من الشمال إلى الجنوب، من سهل الحولة شمالًا، مرورًا بطبريا ومرج بن عامر، ثم من هناك إلى الساحل، وليس صدفة أن اقتراح التقسيم الأول من عام 1937 كان يضم هذه المنطقة بالضبط.
“عرب 48”: إذًا هي الخطة الصهيونية، وليس النمو الطبيعي للمدن، هو ما جلب هذه الكثافة السكانية اليهودية التي عدّلت الميزان الديمغرافي فيها وفي محيطها لصالح الاستيطان الصهيوني، كما تقول. ولكن في أي فترة حدث ذلك؟ وما هو الحيز الزمني؟
د. مناع: لا شك أن الكثافة السكانية الأكبر لوجود الاستيطان الكولونيالي اليهودي الصهيوني حدثت بعد الحرب العالمية الأولى وصدور وعد بلفور، حيث تشير التقديرات إلى أنه قبل هذا التاريخ كان في فلسطين 80-85 ألف يهودي في الحد الأقصى، وهناك من يعتقد أن الرقم أقل من ذلك، كما أن هذا العدد انخفض خلال الحرب. لكن المتفق عليه، حسب كل الأبحاث الصهيونية والأوروبية والعربية، أن عدد السكان اليهود في فلسطين لم يتجاوز قبل الحرب العالمية الأولى وصدور وعد بلفور نسبة 10% من مجموع السكان.
إذا سلّمنا بهذه الحقيقة، نستنتج أنه خلال 30 سنة من الحكم البريطاني، ارتفع هذا العدد من 10% إلى ثلث السكان عشية النكبة.
في الجهة المقابلة، شكّلت المدن الفلسطينية ثلث سكان فلسطين العرب، وشكّلت المدينة مركز الاقتصاد، فهناك مكان العمل، وهناك المصانع والمتاجر، إضافة إلى دورها الخدمي والثقافي، حيث تنمو وتستقر فيها النخب السياسية والأحزاب والقيادات.
لذلك، فإن احتلال المدن وتهجير سكانها جعل البقية الباقية في منطقة 48 تخسر القيادات والنخب السياسية والثقافية، إضافة إلى المراكز الاقتصادية. وهذه النقطة مهمة في فهم الواقع الذي عاشه من تبقى في الداخل بعد النكبة.
“عرب 48”: ربما تعود بعض أسباب ظلم المدينة الفلسطينية وتغييبها في أدبيات النكبة، إلى العتب على أنها لم تلعب الدور المنوط بها في الصمود، بل إن بعض البرجوازية الفلسطينية هاجرت من تلقاء نفسها قبل بداية الأحداث؟
د. مناع: يمكن أن نتهم المدينة، ويمكن أن نتهم النخب، وباعتقادي الشخصي، فإن التهمة يجب أن توجَّه أكثر إلى النخب السياسية والنخب عمومًا. وكما هو معروف، فإن القيادة الفلسطينية، قيادة الحركة الوطنية خلال كل فترة الانتداب، كانت تتمركز أساسًا في القدس وفي المدن الكبيرة الأخرى التي كان لها تمثيل في الهيئة العربية واللجنة العربية والمؤتمرات الوطنية المختلفة التي جرت منذ سنة 1918.
يمكن توجيه الاتهام إلى الأحزاب التي وقعت في فخ سياسة “فرّق تسد” البريطانية، وانهمكت في الصراع العائلي بين حزبي الحسيني والنشاشيبي، وهو ما فتّ في عضد المجتمع الفلسطيني عمومًا. ثم إن هذه القيادة، عندما بدأت “الحرب”، غالبيتها تركت فلسطين بحجة الذهاب لجلب السلاح، وهذا ما دفع قطاعات من المثقفين وقطاعات من البرجوازية، الذين شعروا بأنهم بقوا دون قيادة، إلى المغادرة نحو بيروت ودمشق والقاهرة، ظنًّا منهم أن ما يحدث هو موجة عابرة، وأنهم سيعودون بعد مرورها.
لم يتوقع أحد أن هذه المرة ستكون مختلفة، وأن هناك خطر تطهير عرقي، وأن كل من يخرج لن تسمح له الدولة اليهودية لاحقًا بالعودة إلى أرضه وبيته. وهذه التجربة كانت تجربة مرّة جدًّا للفلسطينيين، وهي تجربة ملهمة لأهالي غزة اليوم الذين يرفضون ترك ديارهم رغم القتل والقصف والدمار، خاصة إذا ما علمنا أن ثلثي أهلها لاجئون من منطقة جنوب يافا.
“عرب 48”: معروف تاريخيًّا منذ ثورة 36–39 أن الدور الأساسي في المقاومة المسلحة كان للفلاحين وسكان الريف الفلسطيني، علمًا أن القيادة السياسية هي من النخب المدينية؟
د. مناع: صحيح أن الغالبية الساحقة من المقاومة المسلحة للحركة الصهيونية وبريطانيا منذ ثورة 36–39 كانت فلاحية، لكن كلنا يذكر بعض رموز المقاومة المسلحة من أصول مدينية، أمثال عبد القادر الحسيني وأمثاله من القدس ونابلس والخليل واللد والرملة.
إلا أنه من الجدير بالذكر أن كل المقاومين الذين كانوا يحملون السلاح عام 48 لم يتعدَّ عددهم أربعة إلى خمسة آلاف مسلح من مليون وثلاثمئة ألف فلسطيني، وهذا لم يأتِ من فراغ، بل كان نتيجة سياسة المنع المستمر من قبل الحكومة البريطانية لأي مظهر من مظاهر مقاومة المشروع الصهيوني والسياسة البريطانية، ونتاج قمع ثورة 36، وخاصة مرحلتها الثانية في 38–39، بشكل عنيف ومميت جدًّا، إضافة إلى العقوبات الجماعية على القرى والمدن، وقتل أعداد ضخمة من الثوار.
“عرب 48”: هناك من يدّعي أن بريطانيا هزمت الحركة الوطنية الفلسطينية في الـ36–39، لذلك كانت الـ48 تحصيل حاصل؟
د. مناع: صحيح، بريطانيا عشية الحرب العالمية الثانية أرادت إنهاء هذه الثورة في فلسطين بكل ثمن، وتعاونت مع الحركة الصهيونية بهذا الشأن، فجلبت قوات كبيرة، وقامت بقمع الثورة بشكل عسكري فظ. وهناك كثير من المؤرخين يعتقدون أنه تم كسر ظهر المقاومة الفلسطينية المسلحة، وعندما جاء عام 48، واندلعت الحرب على مستقبل فلسطين مع الحركة الصهيونية المنظمة، التي كانت تمتلك أعدادًا ضخمة من المقاتلين المدربين والمسلحين، بعد أن سمحت لها بريطانيا بإقامة منظمات عسكرية مدرّبة مثل “الهاغاناه” وغيرها، لم يكن لدى الفلسطينيين قوة لمواجهتها. ولذلك صار أملهم الوحيد معقودًا على الجيوش العربية، علمًا أن الجيوش العربية ذاتها لم تكن جاهزة لحرب من هذا النوع.
“عرب 48”: هذا ناهيك عن التواطؤ البريطاني مع الحركة الصهيونية في عملية التهجير، كما ذكرت، وخاصة سكان المدن، حيث جرى تهجير حيفا ويافا قبل انتهاء ولاية الانتداب وانسحاب الجيش البريطاني من فلسطين في 15 أيار 48؟
د. مناع: حيفا ويافا وطبريا وبيسان وعكا جرى احتلالها من قبل المنظمات الصهيونية قبل انتهاء الانتداب البريطاني في منتصف أيار، وبريطانيا، التي كانت متواطئة مع الحركة الصهيونية منذ وعد بلفور 1917، بدا تواطؤها واضحًا للعيان عند احتلال أول مدينتين، وهما طبريا وحيفا، حيث جرى تهجير سكان طبريا بالتواطؤ مع الوجود البريطاني في المدينة، وساعدوهم في النزوح إلى الأردن. وقضية حيفا وتهجير أهلها (في 22/4) مشهورة، إذ تمّ ذلك عن طريق الميناء، وبعد أسبوع، أي في (أوائل أيار)، جرى تهجير أهالي يافا.
د. عادل مناع: مؤرخ فلسطيني متخصص في تاريخ فلسطين خلال العهد العثماني، والفلسطينيين في القرن العشرين. عمل لأربعة عقود، منذ بداية الثمانينيات، أستاذًا للتاريخ في عدة جامعات محلية وعالمية، وله عشرة كتب وعشرات المقالات، أبرزها كتاب “نكبة وبقاء” المنشور باللغات الثلاث: العربية، والعبرية، والإنجليزية.
المصدر: عرب 48