مقالات

كتب اسماعيل جمعه الريماوي: أمة على هامش التاريخ: من زمن الأمجاد إلى زمن الانبطاح

المسار …

بينما تشتد حركة التاريخ من حولنا، وتتسارع الأمم في سباق التكتل والنهوض، لا تزال أمة الأعراب تعيش في زمن مفصول عن الحاضر، تجتر أمجادًا قد خلت، وتستظل بظلال رجال رحلوا قبل قرون، كأن صلاح الدين ما يزال يحرر القدس، وكأن ابن سينا لم يمت بعد، وكأن الرازي ما زال يعلّم البشرية الطب .

أمةٌ تنظر إلى مرايا الماضي كأنها نوافذ على المستقبل، ولا تدرك أن الركون إلى التاريخ دون إنتاج جديد هو طريق سريع نحو العدم، فالذي لا يكتب فصله في هذا العصر، يُكتب عليه أن يُمحى من فصوله القادمة.

ليست المعضلة في الفقر ولا في الجهل ولا حتى في الاستبداد، بل في أن هذه الأمة قد استمرأت التخلي، حتى صار التنازل قاعدة، والذل حكمة، والسكوت شجاعة، والانبطاح سياسة.

تكالبت الأمم عليها لا لأنها ضعيفة فقط، بل لأنها رضيت أن تكون كذلك ، باعت خيراتها علنًا، وارتضت بالتبعية طوعًا، ومنحت للعدو مفاتيح سيادتها، فأصبح الكيان الصهيوني، بكل هشاشته مرجعية الاولى للمنطقة، يتلقى منه بعض التعليمات، وينتظرون منه الرضا كما ينتظر العبيد إشارة من سيدهم .

وفي زمن العواصف الكبرى، حين سقطت بغداد تحت الاحتلال، وقصفت بيروت بلا رحمة، وذُبِحت دمشق بسكين الخارج والداخل، وترنحت صنعاء بين أنياب الطامعين، لم تجد هذه العواصم الكبرى في أمتها من يمد لها يدًا، بل وجدت فيهم من يطعنها في ظهرها ، أما فلسطين، فقصة خذلانها لا تحتاج إلى رواة، إذ باتت فصولها تُبث على الهواء مباشرة ، تُغتصب أرضها، يُهوَّد قدسها، تُدكّ بيوتها، يُجوَّع شعبها، ويُخيَّر أهلها بين الشهادة أو التهجير، في حين تُبنى الأسوار لا لحمايتها بل لعزلها، وتُمنع عنها المعونات لا لأن الأعداء حالوا دونها، بل لأن الإخوة قيدوها بأيديهم، وأغلقوا عنها المعابر، وفرضوا عليها الحصار من داخل الجغرافيا العربية نفسها.

إن أكثر ما يثير الأسى أن أمة الأعراب لا تفتقر إلى الموارد، ولا تعاني من ضيق في الإمكانات، بل تملك كل مقومات النهضة من مال وموارد وموقع وثروات بشرية، لكنها تفتقر إلى إرادة النهوض ، لقد صارت العروش أثمن من الأوطان، وصار الاستقرار يعني الخضوع، وصار الأمن مرادفًا لحماية الاحتلال لا مقاومته. مات الحلم العربي حين تحوّلت فلسطين من قضية إلى عبء، وحين صار المقاوم متهمًا، والمطبع وطنيًا، وصار العدو صديقًا والشقيق عدوًا، وانقلبت المعايير حتى اختلطت على الناس سبل الحقيقة.

في زمنٍ تتسابق فيه الأمم لصناعة أدوات القوة، تنشغل هذه الأمة بصناعة إعلام يُلمّع الهزيمة، ويجمّل الانهزام، ويعيد إنتاج الطغاة في ثياب الوطنيين ، وفيما العالم يبني مدنه الذكية، تبني أنظمتنا أسوارًا حول المخيمات والسجون، وتمنع الصوت قبل الفعل، وتخشى الكلمة أكثر من الصاروخ ، أصبحت الأمة لا على هامش التاريخ فقط ، بل على هامش الجغرافيا نفسها، بلا دور ولا قرار، تتلقى الصفعات وتتنافس على نيل الرضا من جلاديها.

لكن التاريخ لا يرحم الساكنين على الهامش، ولا يمهل المتقاعسين طويلاً، فإما أن تنهض هذه الأمة من غفلتها، وتعيد تعريف موقعها ودورها في هذا العالم المتغيّر، أو تذوب في صمتها كما تذوب الكيانات الوظيفية بعد انتهاء دورها. فالمستقبل لا يصنعه من يتكئون على الماضي، بل من يصنعون حاضرهم بأيديهم، ويتقدمون بثبات نحو مواقع الفعل، لا مواقع التلقي.