عربيتربية وتعليم

جدل واسع في الجزائر بعد دعوة نائب لإلغاء مادة الفلسفة.. ودعوات لمحاصرة الخطاب الشعبوي

المسار …

فجّر نائب في البرلمان الجزائري موجة واسعة من الجدل على منصات التواصل الاجتماعي، بعدما كتب بأنه يعتزم المطالبة بإلغاء مادة الفلسفة من امتحانات شهادة البكالوريا، متسائلا بلهجة استنكارية: “ماذا استفدنا منها كمادة؟”.

وجاء حديث النائب رشيد شرشار وهو من حركة البناء الوطني المحسوبة على التيار الإسلامي (مشاركة في الحكومة)، في سياق تفاعلات أحدثها اختبار مادة الفلسفة في البكالوريا، حيث أبدى التلاميذ استياءهم من صعوبة الأسئلة التي لم تكن بحسبهم ضمن المقترحات التي أرشدها إليهم بعض الأساتذة، ليتحول النقاش من طبيعة الأسئلة إلى مصير المادة نفسها.

وقد سارع النائب إلى محاولة تدارك الموقف بعد اتساع رقعة الانتقادات، فعاد بمنشور ثانٍ يوضح فيه أن مقترحه لا يعني إلغاء الفلسفة كفكر أو كقيمة معرفية، بل يخص كيفية تدريسها كمادة في بعض الشُعب. وأشار إلى ما وصفه بـ”حشو المناهج”، وإلى أن التلاميذ يُجبرون على حفظ عشرات المقالات الفلسفية دون فهم أو تحليل، وهو ما يؤدي حسب رأيه إلى نتائج “كارثية”، ويجعل التقييم مجرد عملية استظهار، لا تفكير ولا تأمل. كما اعتبر أن امتحان الفلسفة يشكل ضغطًا نفسيًا على المترشحين ويؤثر على أدائهم في باقي المواد. غير أن هذا التوضيح، رغم استحضاره لآيات قرآنية في محاولة لإضفاء عمق روحي على الطرح، لم يُقنع الكثيرين، خاصة في الأوساط الأكاديمية.

وباستهجان واسع، ردّ أساتذة فلسفة ومثقفون وصحافيون على هذا النائب، معتبرين أن مجرد التفكير في إلغاء الفلسفة هو تعبير عن أزمة فكرية تمس مؤسسات حساسة في البلاد. وكتب محرز بويش، أستاذ الفلسفة بجامعة بجاية، ضمن هذا المنحى، أن الجدل السنوي الذي يتكرر حول الفلسفة يعكس مستوى من السطحية الفكرية، لكنه هذا العام اتخذ بُعدًا أخطر حين صدر عن نائب في البرلمان.

وأوضح بويش أن الفلسفة ليست مجرد مادة دراسية، بل ركيزة في بناء الشخصية والمجتمع، بلغة تعبيرية لاذعة قال فيها: “آهٍ على بلدي حين تصبح النخبة مجرد ساعين إلى مناصب لا تتطلب العقل، ولا الحكمة، ولا البصيرة، ولا العلم، بل تقوم على الشعبوية، والرداءة، والكراهية، والجهل”. وربط ذلك بما سماه “الفراغ السياسي” الذي سمح بتسلل من ليست لهم علاقة بالفكر ولا بالثقافة إلى مؤسسات القرار.

وبنفس النبرة، عبّر أساتذة جامعيون ومدونون آخرون عن قلق مماثل، حيث اعتبر الأستاذ رابح لونيسي، المختص في التاريخ، أن الفلسفة هي “أم العلوم” وأن المطالبة بإلغائها تعكس نوايا سياسية تهدف إلى تغييب التفكير النقدي لدى الأجيال، وتسهيل التلاعب بالرأي العام. وأكد أن الفلسفة تُعلم العقلانية والمنطق والشك المنهجي، وهي كلها أدوات ضرورية لتكوين مواطن حرّ ومستنير، في مواجهة الشعبوية التي تعتمد على دغدغة المشاعر بدل بناء الوعي.

بدوره، استحضر الصحافي سعيد بودور التراث الفلسفي في الرد على النائب، فاستعار قول سقراط: “الجاهل معجب بنفسه، والعالم متعب بنفسه”، ليؤكد أن الفلسفة لا تهدد مستقبل الأمة، بل تهدد فقط من اعتادوا أن ينجوا بالخطاب الخشبي والشعارات الفارغة. وانتقد بشدة محاولة تصوير الفلسفة كعدو، مذكّرًا بأن أكبر الكوارث في التاريخ حدثت عندما ساد الجهل وتراجع التفكير النقدي.

وفي منشوراتهم، ركّز بعض المدونين على المفارقة العجيبة التي تنطوي عليها الدعوة لإلغاء الفلسفة من قبل نائب في البرلمان، مؤسسة وجودها قائم على النقاش والجدل. وهنا، كتب عبد الغفور بن وافدل، أن النائب يعكس “أزمة التصورات والمفاهيم” في العقل السياسي العربي، مهاجما الطرح بشدة: “الفائدة من الفلسفة هي السؤال، والسؤال الذي نوجهه لك هو: ما فائدتك أنت في هذا المنصب؟”. وذهب إلى أبعد من ذلك حين شبّه ما قاله النائب بإنتاج ديماغوجي لا يختلف عن تهريج بعض البرلمانات السابقة، معتبرًا أن الفلسفة كانت دائمًا صمام أمان ضد الحماقة والاستبداد.

ولم تتوقف الردود عند الجانب الأكاديمي، بل شارك كثير من الناشطين بآراء حادة في انتقاد منشور النائب. فقد استعرض علي بالول مكانة الفلسفة في زمن الذكاء الاصطناعي، مبرزًا كيف تعتمد كبريات الشركات العالمية مثل غوغل ومايكروسوفت على فلاسفة لتطوير أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، مؤكداً أن الفلسفة لم تعد ترفًا معرفيًا بل ضرورة لمواجهة تحديات العصر الرقمي. وقال إن تدريس الفلسفة منذ الصغر يُعدّ بمثابة “جهاز مناعي” يحمي الأفراد من التلاعب الإعلامي والتطرف الفكري.

وفي السياق، ثمة من رأى أن النائب حاول مجاراة طرح شعبوي في الشارع، بعد الضجة التي أثيرت حول امتحان الفلسفة لشعبة الآداب واللغات الأجنبية في البكالوريا، حيث عبر كثير من التلاميذ عن استيائهم بسبب بعد الأسئلة عن المواضيع التي تم تداولها على مواقع التواصل. وأدى ذلك إلى حالة من الارتباك لدى التلاميذ، خاصة من ركزوا على المقالات المتوقعة وأهملوا أجزاء من المقرر. وأعادت هذه الحادثة فتح النقاش حول جدوى طريقة تدريس المادة، وسط دعوات لتطويرها بدل الاستغناء عنها.

ومن هذه الزاوية، رأى البعض أن منشور النائب يعكس أزمة أكبر تتعلق بمستوى الخطاب داخل المؤسسة التشريعية، حيث يفترض في النواب أن يكونوا رافعة للوعي العام، لا سببًا في تسطيحه. وعبّر كثيرون عن خشيتهم من أن تتحول المواقف الشعبوية إلى أدوات لجني شعبية زائفة على حساب المواد التي تُغذي العقل النقدي وتحمي المجتمع من الانغلاق.

وفي طرحه، كتب المحامي والسياسي عبد الرحمن صالح، أن الغرب لم يحقق تقدمه العلمي فقط بالفيزياء والطب، بل تزامنت نهضته مع ازدهار الأدب والفلسفة والمسرح، من فيكتور هيغو إلى شكسبير. وأوضح أن بناء المجتمعات لا يتم فقط بالمعادلات، بل يحتاج إلى رؤية إنسانية شاملة.

ورغم ما يبدو من سذاجة في فكرة مثل اقتراح إلغاء مادة كالفلسفة، أعاد هذا النقاش تسليط الضوء أهمية العلوم الإنسانية في المنظومة التربوية الجزائرية والتي لا تحظى بنفس أهمية التخصصات العلمية مجتمعيا، كما أبرز إشكالية مستوى الخطاب السياسي، خاصة في المنابر المؤثرة ومدى استيعابه للتحديات والمفاهيم المرتبطة بالتعليم.