مستشفيات غزة الميدانية… شريان حياة وسط الرّكام

Loai Loai
7 Min Read

المسار : بين خيام المستشفى الميداني في خان يونس، جلست المسنة كريمة مشتهي، 67 عامًا، تتنفس بصعوبة بينما تتسلل أشعة الشمس من ثقوب القماش المهترئ. منذ ساعات الصباح، وهي تتأمل الطاقم الطبي الذي يتنقل بين الأسرة البسيطة الموزعة في فوضى مكرهة على النظام.

تقول بصوت واهن: «جئت إلى المستشفى الميداني؛ لأن المستشفيات الكبرى في القطاع دُمرت تمامًا، ولا يمكنها استيعاب الأعداد الكبيرة من الجرحى والمرضى». ثم تعود بعينيها إلى الخلف، حيث أصوات أنين المرضى تمتزج بدوي الانفجارات البعيدة، وكأنها تذكّرها أن الحرب لم تغادر المكان.

تكمل حديثها لـ«القدس العربي»: «في الوقت الحاضر، لا توجد سوى المستشفيات الميدانية.. فاضطررت أن آتي إلى هذا المكان. استقبلوني بكل ترحاب، وعملوا اللازم معي، وأنا الآن تحت العلاج المباشر». يمرّ ممرض شاب، يضع بيدها كوب ماء، فتهمس بالشكر، بينما تشاهد دموع طفلة صغيرة على السرير المجاور.

لكنها لا تُخفي مرارتها من شح الدواء: «هم يوفرون الحد الأدنى من الأدوية، لكن ليس كل الأدوية، مثلما كان الحال قبل الحرب». وتلوّح بيدها نحو رف خشبي عليه بعض عبوات المحاليل والمضادات الحيوية القليلة: «هذه كل ما تبقى من العلاج في هذا المستشفى». حولها، أصوات أجهزة قياس الضغط وصيحات استغاثة، تشهد جميعها على جراح مدينة ما زالت تنزف.

بديل قسري

قبل اندلاع الحرب، كان في قطاع غزة نحو 40 مستشفى وأكثر من 80 مركزًا صحيًا، وعشرات المؤسسات التي شكّلت منظومة رعاية متكاملة. لكن بعد أشهر قليلة من القصف، خرجت أغلبيتها عن الخدمة؛ بعضها احترق، بعضها تساقط تحت الركام، وبعضها بات مرتعًا للقذائف.

في هذه الفراغات الموحشة، وُلدت المستشفيات الميدانية، خيام نصبت على عجل فوق أراضٍ فارغة أو ساحات مدارس مهدمة. صارت هذه الخيام بديلًا وحيدًا، تحاول أن تردّ جزءًا من الفقدان الطبي المهول الذي تركته الحرب.

لكن الواقع أشد قسوة؛ فهذه المرافق الميدانية، رغم دورها الحيوي، تُحارب المعركة نفسها التي دمّرت سابقاتها: شحّ في الأدوية والمستلزمات، انقطاع الوقود، وانغلاق المعابر أمام المساعدات والبعثات الطبية. هنا، لا أحد يملك رفاهية الانتظار، فالجرح مفتوح والزمن يسيل دمًا مع كل مريض جديد.

وسط هذه الفوضى، يحاول الأطباء صناعة معجزة يومية. يسعفون الجرحى، يجرون عمليات بسيطة تحت ضوء المصابيح اليدوية، ويعتمدون على مولدات قد تتوقف في أي لحظة، ليعود المكان إلى صمت ثقيل، لا يقطعه سوى صرخات الألم.

خيام صحية تتألم

في المستشفى الميداني التابع للهلال الأحمر الفلسطيني في خان يونس، يتحدث الطبيب حسين العثامنة بصوتٍ يختلط مع صفير أجهزة الإسعاف: «لدينا الآن 11 مستشفى ميداني يعمل يوميًا، يضم عيادات جراحية متخصصة، ويقدّم خدمات طبية للمراجعين والجرحى والمصابين. لكنها، مثل غيرها، تعاني نقصًا شديدًا في الأدوية والمستلزمات، وصعوبة وصول البعثات الطبية وإغلاق المعابر».

ويضيف، لـ»القدس العربي»: «نقوم بما نستطيع لإنقاذ كل من يصل إلينا. لكننا نواجه نقصًا في الوقود، والأكسجين، والمواد الأساسية. كل يوم نكافح لنحافظ على هذا الشريان الضعيف نابضًا».

تظهر خلفه خيام مليئة بالمرضى، بعضهم ينتظر على مقاعد بلاستيكية، وآخرون يفترشون الأرض، بينما الممرضون يهرعون بين الأسرة يحملون حقنًا ومحاليل قد تكون الأخيرة في المخزن. وفي زوايا الخيام، أطفال يبكون من الألم، وكبار سن يتوسلون قطرة دواء أو جرعة مسكّن، فيما يلوح العجز في عيون الطاقم الطبي.

في خيمة أخرى، يروي الطبيب محمد الشنطي تجربته: «المستشفيات الميدانية تعمل إلى جانب المستشفيات الحكومية، لتقديم الخدمة للحالات الخفيفة والمتوسطة، وللتطعيمات والإصابات التي لا تحتاج إلى تجهيزات كاملة».

لكن صوته ينخفض حين يقول لـ»القدس العربي»: «هذه المستشفيات تواجه خطر التوقف في أي لحظة. نقص الأدوية والمستلزمات يهدد حياة الآلاف، ومع استمرار إغلاق المعابر صار المرضى بين فكي الموت».

بينما يتحدث، يتسابق الأطباء لإنعاش مصاب ينزف بشدة، والمولد الكهربائي يهدد بالتوقف في أي لحظة. الشنطي يضيف: «نلجأ أحيانًا إلى حلول بدائية، نستخدم أدوات معقمة على ضوء الهواتف، ونقتسم آخر عبوات المحاليل بين المرضى».

ومنذ الثاني من آذار / مارس 2025، أغلق الاحتلال المعابر في قطاع غزة أمام المساعدات الإغاثية وقوافل الأدوية، ما عرّض المنظومة الصحية في القطاع إلى انهيار شبه كامل، إذ شحت الأدوية ونقصت المستهلكات الطبية وتوقف الكثير من الأجهزة الضرورية لإنعاش الحياة عن العمل.

رصاص على الأطباء

ولم تكن الإمدادات الطبية فقط هدفًا تضييقات الاحتلال، بل استهدف أيضا الأطباء والمسؤولين عن المنظومة أنفسهم. فقبل أكثر من أسبوعين، اعتقلت قوات الاحتلال الدكتور مروان الهمص، مدير المستشفيات الميدانية في غزة، أثناء زيارة عمل لمستشفى الصليب الأحمر غرب خان يونس.

القوة الإسرائيلية اقتادت الدكتور الهمص إلى جهة مجهولة، في مشهد زاد من رعب الطواقم الطبية التي تعمل بالفعل تحت نيران الخطر.

الدكتور منير البرش، مدير عام وزارة الصحة في غزة، علّق بمرارة: «نحمل الاحتلال كامل المسؤولية عن سلامة الدكتور الهمص». وأضاف: «هذا الاعتقال يأتي ضمن استهداف متعمد للمنظومة الصحية، حيث اعتقل الاحتلال أكثر من 360 كادرًا صحيًا، وقتل أكثر من 1589 منذ بدء حرب الإبادة على قطاع غزة».

وتابع البرش قائلًا في لـ»القدس العربي»: «هذا ليس الاعتقال الأول ولا الأخير، فالكوادر الطبية باتت هدفًا دائمًا. سيارات الإسعاف تُقصف، والطواقم تُقتل أو تُعتقل أمام أعين المرضى، في رسالة واضحة أن إنقاذ الأرواح صار جريمة».

ويكشف كواليس الاعتقال: «قبل لحظات من اعتقاله، تعرضت سيارة الدكتور الهمص لقصف مباشر، أصيب سائقه واستُشهد مواطنان كانا معه، أحدهما صحافي». ثم يضيف بنبرة غضب: «هذه حرب على الطب، على الحياة نفسها. كل طبيب في غزة اليوم يعرف أنه مستهدف مثل أي مقاتل في ميدان الحرب».

قطاع بلا قائد

قبل أيام قليلة من اعتقاله، وقف الدكتور الهمص أمام الكاميرات، وأطلق تحذيرًا بدا كأنه صرخة من قلب العاصفة: «إن لم تتوقف هذه الإبادة ضد المستشفيات والمراكز الطبية، سيموت أبناء الشعب الفلسطيني».

قال أيضًا: «فقدنا 60% من مخزون الأدوية، وما يقارب 80% من المستلزمات الطبية. ومع نهاية ما تبقى، ستتوقف كل الخدمات الطبية في غزة، ولن يجد مليونا إنسان علاجًا ولا دواء».

وتابع بوجه متعب: «نعيش ساعاتنا الأخيرة من القدرة على إنقاذ الأرواح، وإذا لم تدخل المساعدات الطبية فورًا، سنخسر معركة الحياة أمام الموت». ويضيف: «المستشفيات الميدانية ليست سوى خيط رفيع يتدلى فوق هاوية، يمكن أن ينقطع في أي لحظة إذا لم يتحرك العالم».

ختم كلماته بنداء أخير: «افتحوا المعابر، أدخلوا المساعدات الطبية، أوقفوا الحرب قبل أن يموت الجميع بصمت». كلماته بقيت عالقة في الأذهان بعد اختطافه، لتتحول إلى شهادة على حجم الكارثة التي تحاصر غزة والقطاع الطبي بأكمله. وكأن الاحتلال أبى إلا أن يترك القطاع الوحيد «المستشفيات الميدانية» الذي ما زال يداوي الجراح الغزية تائهًا بلا قائد.

Loading

Share This Article