كتب …صبحي حديد: «إسرائيل الكبرى» والصهيونية الصغرى

Loai Loai
4 Min Read

المسار : إذا وضع المرء جانباً شبكة الاستيهامات التي ترسم أو تعيد ترسيم خريطة «إسرائيل الكبرى»، استناداً إلى نصوص توراتية (أسفار التكوين، العدد، حزقيال، التثنية…)؛ فإنّ صهيونية كبرى، إذا جاز القول، لم تتوقف عن تحويل الاستيهام إلى هلوسة جَمْعية ذات وظائف تعبوية وعقائدية، تغذّي أيضاً نزوعات الإرهاب والعسكرة وعقلية الميليشيا والتبشير الاستعماري الاستيطاني في فلسطين. الراعي الأبكر لم يكن تيودور هرتزل إلا في المفهوم العريض لـ«الدولة اليهودية»، وفي المقابل كان أمثال زئيف جابوتنسكي ودافيد بن غوريون يتقاسمان التروبج للفانتازيا في صفوف «يمين» و«يسار» زعمت التوزّعَ إليه صهيونيةُ العقود الأولى من مطالع القرن العشرين.

لن يطول الوقت، مع ذلك، قبل أن يتكشف هذا الثنائي الزائف عن توزيع أكثر وضوحاً، وأقلّ قدرة على التمويه والمخادعة، فأطلق جابوتنسكي مشروع حزب «تنقيحي» يهدف إلى تنقية الحركة الصهيونية من إفكار بن غوريون وحاييم وايزمان، بصدد جغرافية «إسرائيل الكبرى» على وجه التحديد، وضرورة امتدادها إلى شرق الأردن وبعض البادية الشامية. وقارئ أدبيات ذلك السجال، كما في كتابات أبا أخيمئير (1898 ـ 1962) مثلاً، سوف يعثر على استمطار اللعنات والشتائم والاتهامات؛ ضد «الصهاينة الكذابين» من «اشتراكيين» و«إنسانيين» و«أحباب صهيون»، وضدّ تسعة أعشار المنظمات الصهيونية أياً كانت وظائفها، من نقابات الهستدروت وحتى أصغر المنظمات المعنية بمسائل الهجرة وشراء الأراضي وتنظيم الاستيطان.

أكثر من ذلك، أو أبعد في الخطاب والتوجّه، أواخر عشرينيات القرن المنصرم، أعلن أخيمئير أنّ المنظمة الصهيونية «جثة هامدة ينبغي أن تُدفن سريعاً قبل أن تزكم رائحتها أنوف الصهاينة الأطهار»؛ أي أعضاء «شباب الحركة» حسب تسميتهم آنذاك، أمثال مناحيم بيغين وإسحق شامير، فرسان العمليات الإرهابية القادمة ضدّ الفلسطينيين والبريطانيين على حدّ سواء، والذين سوف يصبحون قادة أحزاب إسرائيل ورؤساء حكوماتها في العقود التالية. وفي أيار (مايو) 1977، مُني «يسار» الصهيونية بهزيمة تاريخية ماحقة جاءت بـ«يمين» الصهيونية وقد صار قومياً دينياً متطرفاً وعنصرياً.

وحين وقف بيغن، الزعيم السابق لعصابات «إرغون» الإرهابية ورئيس حكومة الاحتلال بإرادة جموع الناخبين الإسرائيليين، أمام جماهير حاشدة هائجة تهتف «عاش الملك! عاش الملك!»؛ كانت السياسة، في أيّ حدود دنيا لتعريفها، تغادر مبنى الكنيست وتضع مخيّلة التلمود على شفاه الدهماء. وأمّا الضمير الجَمْعي اليهودي، ذاك الذي تغنت به الصهيونية ووظّفه مهندسو «صناعة الهولوكوست» وفزّاعة العداء للسامية؛ فقد انزلق بسرعة قياسية نحو إيديولوجيا مقدّس ذي مواصفات لا تتيح أيّ التباس حول وطأة الاستيهام: غائم، أسطوري، هستيري، استيطاني، عنصري، يخجل عتاة منظّري الأبارتيد من التماهي معه أو الانتماء إليه.

وليس رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو سوى الخطوة الأحدث عهداً في تلك السيرورة من انحطاط عقيدة دولة الاحتلال إلى صهيونية صغرى، ولكن في إسار الهستيريا الجَمْعية القديمة حول «إسرائيل الكبرى». وليس من فوارق ذات شأن، في ناظر المُهَسْتَرين المُسْتوْهَمين، أن يكون آخر دعاتها/ قادتها/ منظّريها صهيوني مثل نتنياهو، مدان في محكمة العدل الدولية، مطلوب للمحكمة الجنائية الدولية، ولم تعد نسبة 59% من الإسرائيليين راضية عن سياساته (في عدادهم، أغلب الظنّ، أناس صوّتوا له في الماضي، مراراً).

وبهذا المعنى فإنّ اعتقاد نتنياهو بأنه منخرط «في مهمة تاريخية وروحية»، ليس منفصلاً عن تأييده لـ«رؤية إسرائيل الكبرى»، وليس سوى التعبير الأوضح (ولكن أيضاً: الأشدّ سطحية وركاكة وهبوطاً) عن طور الصهيونية الصغرى التي يتوهم زعامتها اليوم؛ حتى إذا كانت نزاعاته مع جنرالات الكيان الصهيوني وقيادات استخباراته ومعظم ساسته وغالبية احتياطيّ جيشه… لا تفيد إلا النقيض.

ولا عجب أنّ مراكز ابتزازه في «المهمة» و«الرؤية» أناس على شاكلة إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموترش، حيث الروائح تزكم أنوف الأشرار، قبل الأطهار!

 

Loading

Share This Article