بين شمال وجنوب قطاع غزة.. عائلات مُشتتة ومسافات تحمل أعمارًا

أصبحت المسافات بين شمال قطاع غزة وجنوبه يساوي أعمارًا وأيامًا، فكل خطوة نحو الآخر تحمل ثقل القلوب المعذبة، في زمن الحرب، تتلاشى الطرق المألوفة، ويصبح التنقل من طرف إلى طرف كأنه مغامرة في المجهول، محاطة بالألم والخوف. كانت المدينة يومًا واحدة، ولكن الاحتلال جعل من التقاء الأحبة حلمًا بعيد المنال.

تتسارع أنفاس القلوب المشتاقة، ويستحيل العناق إلى ذكرى تكتنفها الظلال. في خضم هذه الفوضى، تبرز قصص مؤمن وريم وأحلام، حيث تروي كل واحدة منهن حكاية الفراق والمعاناة، وتعكس شراسة الحرب التي قطعت أوصال المدينة، لكن الأمل في اللقاء يبقى مشتعلاً رغم كل الصعاب.

استمعت لأصوات النازحين الذين فرقتهم الحرب وفصلت عائلاتهم بين شمال غزة وجنوبها، لتوثق معاناتهم وتجاربهم، ولتسلط الضوء على الفراق المرير الذي فرضته قسوة الاحتلال على قلوبهم المشتاقة.

“بكاءٌ لا ينتهي”..

تقول الشابة ريم شلدان، التي تعيش كنازحة في مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة، بينما والدها يقيم في شمال القطاع: “كان الأمر أشبه بكابوس، لأننا فقدنا المعيل والأب والسند! بعد أن كنا جميعًا تحت رعاية والدي، أصبحنا مجردين تمامًا من أي رعاية”.

وتُكمل: “الأسوأ من ذلك أننا خرجنا بلا وجهة، فكان التهديد مفاجئًا ولم يكن خيار الخروج من شمال غزة مخططًا له، كيف وأننا بدون مرشد! كان من مسؤوليتي، أنا فتاة في الثالثة والعشرين من عمري، أن أتولى تدبير أمور عائلتي كوني الأكبر سنًا بين أخواتي وإخواني. كان الأمر أشبه بالسفر إلى مكان لا تنتمي له، لا يعرفك ولا تعرفه، وليس لديك أدنى فكرة في كيفية التعامل مع ظروف التشتت والتشرد بمعناه الحرفي!”

وتضيف “شلدان”: “لم يجري الاتصال مع والدي بشكل مباشر إلا بعد شهر من انفصالنا، ولم نستطع الوصول لأي أحد من أقاربنا ليطمئننا. كانت الاتصالات في الشمال مقطوعة تمامًا، وكانت فرصة الاتصال معه أشبه بأمنية في ذلك الوقت المشؤوم!”.

وتُتابع بنبرةٍ مُثقلة: “لن أنسى ما عايشناه من رعبٍ يذيب القلوب بسبب الأخبار التي كنا نسمعها عن الاجتياح في منطقتنا في الشمال، وأننا لا ندري في أي ركن يتواجد أبي الآن! وبعد ليالٍ وأيام طوال، تواصل معنا أحد الموجودين في الشمال وأخبرنا أنه رأى والدي وأنه ما زال بخير! وكان هذا أجمل شعور ممكن أن نعيشه! فكرة أن والدي ما زال حيًا وبأمان كانت تملأ قلوبنا بالراحة.”

ماذا عن أصعب اللحظات؟ تُجيبنا بعد تنهيدة مؤلمة: “أصعب لحظة مررت بها كانت عندما وصلنا خبر استهداف منزلنا بقذائف المدفعية في بكيرة صباح أول يوم بعد هدنة واهية استمرت 6 أيام، كان الخبر كالصاعقة، لأن الاستهداف كان للغرف التي كان يتواجد فيها والدي! لكن الحمد لله أنه نجا من تلك القذائف. وهكذا يتكرر شعورنا المرير في كل مرة نتابع فيها أخبار الاستهدافات، ووصول آليات الاحتلال إلى المناطق التي يتواجد فيها والدي وأقرباؤنا.”

وتشير “شلدان”: “بكل صدق، وحتى هذه اللحظة، شعور الضياع والتيه هو الشعور المسيطر علينا منذ أول ثانية خرجنا منها من الشمال، أما بخصوص الأمان! لن أخفيك سرًّا، نحن لم نعرف معنى له من بداية الحرب. كل ما كان يدور في خاطرنا مع كل نزوح جديد هو كيف سنستطيع تدبير شؤوننا في مكان لا نعرف فيه أحد! اعتمدت كليًا على نفسي كوني الابنة الأكبر! كان من الصعب في كثير من الأوقات أن أجد مأوى مناسبًا لعائلتي، وانتهى الأمر بنا في مكان يُطلق عليه “المنطقة الآمنة”، آمن لدرجة أنني شهدت استهدافًا لم يبعد عني سوى بضع أمتار! لولا لطف الله فينا، فإننا لا نعلم هل سنبقى جميعًا معافين حتى نلتقي بوالدنا أم لا!”

وتقول: “كنا نهرع دائمًا للاتصال بعد معرفتنا باستهداف في منطقة منزلنا! لن أنسى خبر استهداف عائلة شلدان في منطقة الصبرة، وكان الوصف يمثل موقع بيتنا تمامًا! كانت تلك اللحظات الصارخة مليئة بالترقب والقلق، هل سيرد والدي أم أن أحدًا من أفراد الدفاع المدني سيبلغنا بالخبر؟ وكانت اللحظات تأكل قلوبنا حتى علمنا أن الاستهداف كان لبيت عمنا المجاور، الذي راح ضحيته 3 من قاطني المنزل من أقربائنا، وإصابة جدتي وأعمامي وعماتي! كانت ليلة مريرة، حينما قطع الاتصال بكاء والدي بشكل هستيري لهول الموقف!

وتتابع: “تستمر اتصالاتنا يوميًا، والسؤال يتكرر: ماذا أكلت اليوم؟ نظراً لوضع الشمال الصعب وعدم توفر أدنى مقومات الحياة في بعض الأوقات! كان أبي دائمًا يرد ببعض من الاستهزاء ويلهينا بإجابات خيالية عن وجبات الطعام التي يأكلها، ويصف كيف أنه حصل اليوم على ضلع خروف وأكله بمفرده! وهو في الحقيقة خاوي الأمعاء. نضحك بيننا لكن يعتصر الألم قلوبنا لأننا نشتهي أن يصل لوالدي بعض الأكل الطيب كما عهدنا سابقًا قبل الحرب!”

وتؤكد: “لطالما كان شعور الحنين هو الشعور الأوحد المتمثل تجاه والدي في الشمال! كل محاولاتي في التأقلم لم تنجح في إطفاء نار شوقنا تجاهه. في كل مرة كنت أتواصل معه، كانت تتبعها الكثير من الدموع والانكسار والشعور بعدم الأمان. الأيام تمر والشعور بالعجز لعدم الوصول لعزيزنا يدمينا ولا يكل في نفوسنا. التأقلم على البعد لم يجد مكانًا في قاموسنا، نحن نريد اللقاء في كل ثانية تمر بها الأيام!”

“كانت الصور والتوثيقات لذكرياتنا في غزة تعكس مشاعر متناقضة، هل هي لعنة تزيد من قهرنا على ما تركناه في شمالنا أم مسكنات نروي بها عطش حنيننا للماضي؟ كانت المشاعر تتبدل في كل مرة أرى فيها صورًا تجمعني بوالدي أو فيديوهات تجمعاتنا العائلية في ديارنا وأماكننا المفضلة! تارة يأكلني الحزن على مفارقتنا لأعز ما نملك، وتارة يأخذني عبق الذكريات لتلك اللحظات، ولكن سرعان ما يقطع هذا الحلم واقع مليء بالفقد والبعد والتشتت والضياع!”

تقول “شلدان”: “بخصوص الفيديو الذي نشرته مؤخرًا، والذي وثق بعض المحادثات بيني وبين والدي، كنت أقطع مسافات طويلة بعيدًا عن مكان نزوحنا لأتمكن من التواصل معه بالصوت والصورة. كنت أريد عندما أعود إلى أمي وأخواتي أن أريهم صورًا لوالدي، لذا كنت أحرص على تسجيل المحادثات. دائمًا ما كان قلبي منهزمًا أمام سؤال والدي المتكرر عن حالنا، ففي أصعب الأوقات التي مررنا بها، لم أكن أحدثه عن معاناتنا، بل أبديت له أننا بأفضل حال حتى لا يشغل باله علينا وهو بعيد عنا. ولكن سرعان ما كان قلبي ينفطر من كثرة الحزن وتفيض دموعي بعد كل اتصال معه.”