المسار : حين يدفع المواطن الأمريكي ضرائبه السنوية، يظن أنه يساهم في بناء وطنه، في تحسين المدارس والمستشفيات والطرقات، وفي ضمان صحي يحميه عند المرض أو الشيخوخة، لكنه في الحقيقة، ومن حيث لا يدري، يموّل أكبر ماكينة قتل في القرن الحادي والعشرين: آلة الحرب الإسرائيلية في غزة.
منذ تأسيس إسرائيل وحتى اليوم، لم تنقطع المساعدات الأمريكية عنها، لكن ما يجري منذ حرب غزة الأخيرة تخطى حدود الدعم السياسي أو العسكري، وتحول إلى شراكة مباشرة في الإبادة، أكثر من أربعة مليارات دولار سنويًا تُمنح لإسرائيل من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين، تحت عناوين براقة مثل “الدفاع المشترك” و”ضمان أمن إسرائيل”، لكنها تُترجم عمليًا إلى قنابل تسقط فوق رؤوس الأطفال والنساء، وإلى جرافات تهدم البيوت والمدارس والمستشفيات.
هذه الأموال التي يُقتطع جزء منها من راتب كل عامل وموظف أمريكي، لا تُصرف لتحسين حياة دافعيها، بل لتدمير حياة شعبٍ آخر، ملايين الأمريكيين بلا تأمين صحي، مئات الآلاف يعيشون بلا مأوى، ونظام التعليم يعاني من تراجع مزمن، في وقتٍ تُرسل فيه واشنطن مليارات الدولارات سنويًا لتمويل رفاهية المستوطنين، وبناء المستوطنات على الأرض الفلسطينية، وتسليح جيش الاحتلال الذي يقتل المدنيين بدمٍ بارد أمام عدسات العالم.
الأخطر من المال هو ما تشتريه هذه المليارات من نفوذ سياسي داخل الولايات المتحدة نفسها، فلوبي “أيباك” الصهيوني لا يكتفي بتوجيه المساعدات لإسرائيل، بل يستخدم جزءًا منها لتمويل حملات انتخابية لأعضاء الكونغرس ومجلس الشيوخ، ليضمن أن يظلّ ولاؤهم لإسرائيل أولًا وأبدًا، هذه الحلقة المغلقة من التمويل والولاء تجعل السياسة الأمريكية أسيرة للابتزاز الإسرائيلي، وتحوّل صوت المواطن الأمريكي إلى مجرد صدى لقرارات تصاغ في تل أبيب.
إن ما يجري اليوم ليس دعمًا لحليف كما يُروَّج في الإعلام الأمريكي، بل تواطؤ ممنهج تُرتكب باسمه جرائم حرب، وتُغسل يديه بدماء الفلسطينيين كل يوم. فحين تسقط قنبلة على منزل في غزة، ثمة جزء من ضريبة أمريكية دفعها موظف في كاليفورنيا أو ممرضة في نيويورك أو معلم في تكساس، يتحول إلى شظية تخترق جسد طفل أو أم.
السؤال الذي يجب أن يواجه به المواطن الأمريكي نفسه هو:
إلى أي مدى يمكن الصمت عن جريمة تُرتكب بأمواله؟
ومتى يدرك أن “أمن إسرائيل” الذي يُموّله منذ عقود، يعني في الواقع زوال العدالة، وإدامة الحروب، واغتيال القيم التي قامت عليها أمريكا ذاتها؟
الدوافع وراء الدعم الأمريكي لإسرائيل
لا يمكن فهم هذا السخاء المالي الأمريكي لإسرائيل بعيدًا عن البعد الاستراتيجي العميق الذي يحكم رؤية واشنطن للشرق الأوسط. فإسرائيل بالنسبة لصناع القرار الأمريكيين ليست مجرد “حليف”، بل أداة استراتيجية متقدمة لحماية المصالح الأمريكية في المنطقة، من خلال وجودها العسكري والأمني والاستخباري، تضمن واشنطن تفوقًا إسرائيليًا دائمًا يمنع أي دولة عربية من النهوض كقوة مستقلة قادرة على كسر الهيمنة الغربية أو تهديد المصالح الأمريكية في الطاقة والممرات المائية والتجارة الدولية.
كما أن إسرائيل تمثل الذراع المتقدمة للمجمّع الصناعي العسكري الأمريكي، فهي مختبر ميداني للأسلحة الأمريكية، تُجرَّب فيها أحدث التقنيات العسكرية قبل تسويقها عالميًا، وبذلك تتحول كل حرب في غزة إلى إعلان غير مباشر عن “فاعلية السلاح الأمريكي”، ما يعني أرباحًا ضخمة لشركات السلاح التي تموّل بدورها الحملات الانتخابية في واشنطن.
لهذا، فإن استمرار تدفق المساعدات الأمريكية إلى إسرائيل لا يُقاس بالمنطق الأخلاقي أو الإنساني، بل بمعادلة المصالح الباردة التي ترى في الدم الفلسطيني ثمنًا مقبولًا لضمان السيطرة والربح والنفوذ.
وبينما تسقط القنابل على غزة، تبقى الحقيقة المرة أن المواطن الأمريكي هو الممول الأول لتلك الحرب، يدفع من جيبه ثمن الجرائم التي تُرتكب باسمه، بينما يُترك هو ذاته يعاني من نظام اجتماعي هشٍّ، واقتصاد يزداد ظلمًا وتفاوتًا كل عام.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر المسار

