دفعت الظروف القاهرة التي يعيشها سكان قطاع غزة جراء الحرب المواطنين إلى ابتكار أساليب جديدة للتأقلم مع قسوة الحياة، كان أبرزها تلك الأساليب التي أوجدوا فيها بدائل للتيار الكهربائي، المنقطع منذ الأيام الأولى لهذه الحرب التي دخلت شهرها الرابع.
مواقد متخصصة
وإن كان اللجوء إلى استخدام الأخشاب والحطب في أعمال المنزل، من أجل طهي الطعام وخبز الدقيق، وهي أعمال كانت تلجأ ربات المنازل إلى صنعها إما على مواقد تعمل بالغاز أو بالكهرباء، حيث يجري تجهيزها حالياً على مواقد النار التي تنوعت أصنافها وأشكالها واستخداماتها، فإن الحاجة وسعت رقعة تلك الابتكارات، ودفعت بالحرفيين هنا إلى خلق بدائل ضمنت استمرار عملهم وكسب قوت يومهم في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة، وكذلك التخفيف عن السكان.
وكان من بين الحرفيين الذين لجأوا لهذه الابتكارات اليدوية الجديدة، أولئك الذين صنعوا مواقد نار بأشكال جديدة، تناسب احتياجات السكان، فمنهم من صنع موقداً صغيراً لا يستخدم كميات كبيرة من الحطب المرتفع الثمن في هذا الوقت، من أجل تسخين المياه، أو صنع الشاي والقهوة، وهي مواقد تصنع من الصفيح، فيما بدأت تنتشر أيضاً في أسواق قطاع غزة، خاصة في مناطق النزوح، مواقد أخرى صنعت من الصفيح أيضاً، بأشكال تناسب وضع أواني الطعام بشكل يريح ربات المنازل، من حيث الشكل وضمان اتزان الموقد بشكل دائم، دون أن يميل إلى أحد الجوانب، فيتسبب في سكب الطعام على الأرض، وهو أمر اشتكت منه السيدات في الفترات السابقة، علاوة عن تلك المواقد القديمة المصنوعة من الطين، والتي تستخدم في الخبز.
وفي قطاع غزة أيضاً بدأت تنتشر في الأسواق مواقد تعمل ببقايا نشارة الخشب مخلوطة بقليل من الطين، توضع بشكل معين داخل الموقد، يكون لها فتحات في الأسفل وأخرى في الأعلى، من أجل خلق تيار هوائي يسمح بسهولة بإيقاد تلك النشارة، وبمجرد إشعالها يستمر لهب النار المنبعث من فوهتها بالاشتعال لمدة متواصلة تزيد عن الـ 24 ساعة.
ويقول أحمد، وهو شاب من مدينة رفح، حيث تحتضن المدينة في هذا الوقت العدد الأكبر من سكان قطاع غزة، بعد أن نزح إليها أكثر من مليون مواطن من كافة مناطق القطاع، إن هذه الفكرة طبّقها باستخدام النشارة والطين الموضوعين داخل صفيحة زيت، شاهدها سابقاً على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، وقام بتطبيق الفكرة عملياً على الأرض.
ويضيفها: “بعد نجاح التطبيق، قررت أن أقوم بعمل هذه المواقد وبيعها”، ويشير هذا الشاب، وهو في منتصف العشرينيات، إلى أنه كان يعمل قبل الحرب في مجال البناء، وتوقف عمله مع بداية الحرب، ويقول إن صنع هذه المواقد يوفر له بعض الأموال التي تساهم في مصروفات أسرته، وكغيره من السكان هنا في غزة، اشتكى أحمد من الزيادة الكبيرة التي طرأت على أسعار السلع، وفي مقدمتها المواد الغذائية الأساسية.
ولم يكن بعيداً عن مكان “بسطة” أحمد، الموجودة في شارع مدينة رفح الرئيس، وتحديداً في غرب المدينة، حيث يكثر النازحون، مساحة على قارعة الطريق تحتوي على كومة من الحطب، يملكها محمد عصار، وهو أحد النازحين الذين لجأوا إلى هذه المدينة، هرباً من الهجمات البرية على وسط قطاع غزة.
ويقول هذا الرجل، الذي تعطّل عمله أيضاً بسبب الحرب، إنه يقوم بشراء الأخشاب من أحد التجار الكبار، كما يقوم بجمع بعض منه من أماكن القصف ومناطق حرجية بعيدة، ويعمل وأولاده على تقطيعه من أجل بيعه.
ويشير، خلال حديثه ، إلى توسع عملية البيع في هذه الأوقات، ويقول: “في سيدات بشترن “يشترين” الحطب، مش بس الرجال اللي بيشتروا”، ويضيف: “ناس بتستخدمه (الحطب) في الطبيخ والخبز، وتسخين المياه للاستحمام”.
ويبيع هذا الرجل الثلاثة كيلو غرامات من الحطب بعشرة شواكل (الدولار يساوي 3.8 شيكل)، ورغم ارتفاع ثمنه، قال رجل كان برفقة زوجته يتسوّقان من تلك المنطقة الشعبية المكتظة: “ما في بديل، لا في غاز ولا كهرباء، مضطرين للحطب”.
وحرص ذلك الرجل على شراء أخشاب من أشجار الزيتون، وقال إن مدتها في الاشتعال تطول أكثر من غيرها، وقد أشار إلى أنه بدأ يشعل ليلاً الحطب في منزله بهدف التدفئة، في ظل تدني درجات الحرارة في هذا الموسم، حيث كان يعتمد سابقاً على تلك الأجهزة التي تعمل بالطاقة الكهربائية.
ويقول صاحب “بسطة” الحطب إن بيعه يزداد مع كل منخفض جوي، وفي كل مرة تنخفض فيها درجات الحرارة، بسبب لجوء السكان لاستخدامها في التدفئة، خاصة النازحين المقيمين في الخيام، حيث يسوء وضعهم عن غيرهم من السكان.
والجدير ذكره أنه منذ اليوم الأول للحرب، قامت حكومة الحرب الإسرائيلية، باتخاذ قرار بوقف إمداد قطاع غزة بكميات الطاقة الكهربائية التي كانت تورد، وهي كمية كانت تصل إلى نحو 100 ميغا واط يومياً مدفوعة الأجر، كما قررت منع دخول شحنات الوقود المخصص لتشغيل محطة توليد الكهرباء الوحيدة في غزة، والتي كانت تعمل بنصف طاقتها.
قُطع التيار الكهربائي عن السكان بشكل كامل في اليوم الثالث للحرب، وتلا ذلك أن قامت قوات جيش الاحتلال، خلال الغارات الجوية التي ضربت كافة مناطق القطاع، وعمليات التوغل البري التي نفذتها في مناطق واسعة، ما تسبب بتدمير شبكات الكهرباء، ما يجعل من أمر إصلاح الضرر، في حال انتهت الحرب، يطول كثيراً.
وكان سكان القطاع يعتمدون على الكهرباء والغاز في كافة أعمالهم اليومية المنزلية، وفي الأعمال الصناعية والتجارية، وبسبب شحّ إمدادات الغاز وانقطاع الكهرباء، لجأ بعض المطاعم ومحال بيع الحلويات في هذا الوقت، إلى تجهيز الطعام على مواقد النار.
الدراجة الهوائية للخياطة
وليس بعيداً عن ذلك، لجأ حرفيون كثر إلى ابتكار آلات يدوية ضمنت لهم العودة إلى أعمالهم، دون الحاجة للكهرباء، وكان من بين هؤلاء العاملون في مجال حياكة الملابس
وعلى غرار الطريقة السابقة التي كانت تعمل بها ماكينات الخياطة اليدوية التي توقف استخدامها منذ عشرات السنين، حول الخياطون ماكيناتهم الكهربائية لتعمل بالطريقة اليدوية، من خلال ربط ذراع اللف بعجلة دراجة هوائية، تعمل على دورانها عند تحريكها يدوياً، لتتحرك معها تروس الماكينة، التي تحرك أيضاً مكان الإبرة والخيط.
وإن كانت الطريقة الكهربائية تحتاج فقط إلى الخياط الماهر، لتشغيل الماكنة، فإن الطريقة الجديدة تحتاج لمساعد آخر يكون برفقته.
ويقول إبراهيم أبو هلال، وهو رجل يملك محلاً لتصليح الملابس قرب ميدان العودة وسط مدينة رفح، إنه في الأشهر الأولى للحرب اضطر لإغلاق محلّه، والمكوث في المنزل، كون عمله يعتمد بالدرجة الأولى على التيار الكهربائي.
وأشار إلى أن سوء الأوضاع الاقتصادية واحتياجات أسرته للمال دفعه، كغيره من العاملين في هذه المهنة، إلى اللجوء لابتكار الدراجة الهوائية.
ويوضح ” أن الأمر لا يتطلب سوى توفير دراجة هوائية، حتى لو كانت صغيرة الحجم، ووضع حبل بلاستيكي من نوع معين على عجلة الدراجة الخلفية، بعد إزالة إطار الكاوتشوك، وربط ذلك الحبل ما بين العجلة وذراع لفّ المحرك الرئيس.
ويقول: “لما بدي (عندما أريد) أبدأ أخيط، بقول لابني حرّك العجلة”، ويضيف: “تبدأ الماكينة بالعمل، وأنا بحرك القماش مثل ما بدّي، ولما أنتهي بقول لابني وقّف”.
وقد شاهدت درجة التناغم في العمل المشترك بين ذلك الرجل وابنه، الذي يساعده في العمل اليومي، الذي يقول إنه يبدأ عند الثامنة صباحاً، ويستمر حتى ما بعد العصر.
ويقول هذا الرجل إن العملية السابقة كانت أوفر للوقت والجهد، “لكن الحاجة ومساعدة المواطنين دفعته لهذا العمل”.
ويضيف: “في السابق كنت أعتمد على قدمي في تحريك الماكينة، واليوم الاعتماد الأول على يد ابني الذي يقوم بتحريك العجلة”.
ويشير إلى أن أغلب الزبائن يلجأون إليه لتصليح ملابسهم القديمة من أجل إعادة استخدامها، أو بهدف تصغير بعضها لتصبح صالحة لأشخاص آخرين في الأسرة، ويوضح أن حاجة الناس المادية في هذا الوقت هي ما يدفع زبائنه لهذا الأمر، حيث لا تتوفر الملابس بشكل كبير في الأسواق، فيما تشهد أسعار المتوفرة منها ارتفاعاً كبيراً كغيرها من السلع.
ومنذ أن فرضت سلطات الاحتلال الحصار على قطاع غزة، مع بداية الحرب يوم السابع من أكتوبر من العام الماضي، لم تسمح بمرور أي شحنات من الملابس، علاوة على منعها دخول العديد من الأصناف الأخرى.
وليس بعيداً عن مكان هذا الخياط، هناك زملاء آخرون له في المهنة، وضعوا ماكيناتهم أمام محالهم، وخصصوا عملهم بمساعدة الدراجات الهوائية، لخياطة القطع البلاستيكية لصنع خيام النازحين.
ويستغل هؤلاء أكياساً كانت مخصصة للدقيق والأعلاف، والمصنوعة من البلاستيك المقوى، ويعملون على خياطتها متلاصقة لتصبح قطعاً يمتد طولها إلى أكثر من خمسة أمتار وعرضها إلى مسافة قريبة من ذلك.
وقال أحدهم إنه يستطيع أن يصنع “شادراً”، ويقصد قطعة كبيرة من البلاستيك، يمتد طولها وعرضها حسب طلب الزبون، يشير إلى أن ثمن ما يصنعه يقلّ بكثير عن ثمن ذلك “الشادر” المخصص لتغطية الخيام، والذي تجري صناعته وجلبه من الخارج.
أعمال منزلية شاقة
والجدير ذكره أن النساء اللواتي كنّ يعتمدن على الآلات الكهربائية في تنظيف المنازل، ومنها المكنسة الكهربائية، اضطررن للتنظيف حاليًا بالمكانس اليدوية.
وتأخذ هذه الطريقة جهداً ووقتاً أطول من الكهربائية، وبسبب الطلب الكبير على هذه المكانس المصنوعة من البلاستيك، نفدت كمياتها من الأسواق، حيث بات الحصول على واحدة منها يكلّف الشخص وقتاً وجهداً كبيرين.
وطال الأمر أيضاً عمليات تحضير الطعام، فبدلاً من استخدام محضرات الطعام في فرم الخضار مثل الملوخية، قبل طهيها، عادت النساء لاستخدام الطريقة البدائية التي تعتمد على فرمها بالسكين يدوياً، وقالت سيدة شابة قابلتها “القدس العربي” في أحد أسواق رفح، وكانت وقتها تشتري كمية من الملوخية، إن والدتها هي من علمتها طريقة الفرم يدوياً، لافتة إلى أنها لم تكن من قبل تعرف هذه الطريقة، بسبب لجوئها إلى الآلة الكهربائية.
وأشارت إلى أن أشياء أخرى كثيرة في المنزل خاصة بالطعام باتت تعملها يدوياً، بعد انقطاع التيار الكهربائي، وأضافت: “حاسة نفسي (أشعر كأنني) عايشة فترة ستي (جدتي) قبل خمسين سنة”، موضحة أنها تعمل أشياء في المنزل كانت تسمع عنها من قصص جدتها، وفي مقدمتها غسل الملابس يدوياً، وهي أكثر الأعمال المتعبة للنساء، وتأمل أن يجري ابتكار شيء جديد للغسيل يعمل على تشغيل الغسالات بدون الحاجة للتيار الكهربائي.
وتجري عملية الغسيل من خلال الاعتماد على أذرع السيدات في إزالة مكان البقع، ومن ثم في تصفية قطع الملابس من الماء، قبل نشرها، وهي عمليات كانت تتكفل فيها الغسالة الأوتوماتيكية. وفي هذا الوقت يزداد وزن قطع الملابس الشتوية، ما يزيد من عبء الغسل وعصر الماء منها لاحقاً.
وقد لاحظت أن الأسواق في مدينة رفح التي يعيش فيها أكثر من نصف سكان القطاع، بسبب النزوح القسري، تفتقر أيضاً إلى أواني تجهيز الطعام، وما يتوفر منها بكميات قليلة يباع بأثمان مرتفعة تفوق ثمنها الأساسي بأكثر من أربعة أضعاف.
وحسب الإحصائيات التي تقدّمها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين “الأونروا”، وإحدى أكبر الجهات التي ترعى النازحين، فإن الحرب الإسرائيلية تسبّبت في نزوح أكثر من 1.9 مليون فلسطيني من غزة، من ضمن العدد الإجمالي، وهو 2.2 مليون نسمة، من بينهم 1.4 مليون يقيمون في مراكز الإيواء التابعة لها.
ويقيم في مدينة رفح، أقصى جنوب القطاع، أكثر من مليون نازح، حيث بات عدد سكان المدينة حالياً نحو 1.3 مليون نسمة، وقد أثّر ذلك على طبيعة الخدمات المقدمة لهذا العدد الكبير، والذي يفوق قدرات السلطات البلدية.