لم تكن تصريحات رئيس ناميبيا الراحل حاجي جينجوب التي وصف فيها ألمانيا بأنها “غير قادرة على استخلاص الدروس من تاريخها القاسي”، إلا إشارة سلطت الضوء ليس على الإبادة الجماعية ضد شعبي الهيريرو والناما فحسب، وإنما تجاوزتها لتفتح نافذة على التاريخ الاستعماري المنسي لألمانيا.
يقول الباحث في التاريخ الاستعماري الألماني البروفيسور يورغن تسيمرر “حتى يومنا هذا لا يزال كثير من الناس مقتنعين بأن ألمانيا ليس لديها تاريخ استعماري، أو على الأقل ليس تاريخًا وحشيا”.
ونفتح هنا صفحة تعود لقرن من الزمن طوتها ألمانيا دون مراجعة، اتسمت خلالها “بفقدان الذاكرة الاستعمارية”، كما يتم وصفها في المناقشات على الساحة الملحية.
يضيف تسيمرر أنه “عندما يتم ذكر التاريخ الاستعماري، يفكر الناس في بريطانيا العظمى وفرنسا وبلجيكا، وليس في تاريخ ألمانيا”.
جزء من الثقافة
ووفق الموقع الاتحادي للتعليم السياسي الألماني، فقد كانت الحرب العالمية الثانية والهولوكوست خصوصا هما المسيطران على الذاكرة العامة، وأحيانا حتى احتكراها.
وفي المقابل، ينص برنامج الحكومة الألمانية على أن ذكرى الجرائم في الحقبة الاستعمارية يجب أن تصبح جزءا من الثقافة التذكارية الألمانية، مثل التصالح مع النازيين.
تركت علاقة الصداقة التي ربطت الإمبراطور الألماني فيلهلم الثاني مع السلطان عبد الحميد وكلماته عن المسلمين وانتقاده للصليبيين أثرًا طيبا في نفوس المسلمين تجاه ألمانيا.
زاد على ذلك أن ألمانيا لم تتورط في غزو استعماري للعالم الإسلامي خلال الحقبة الاستعمارية، مما شكل صورة عامة عنها بأنها دولة غير استعمارية.
كانت ألمانيا مشغولة بصراعاتها الداخلية حتى 1870، وركزت على تأمين المناطق في أوروبا الوسطى لأهميتها لديها، بالإضافة إلى أنها كانت تملك أسطولا بحريا محدودا مقارنة ببريطانيا العظمى.
مكان تحت الشمس
في عصر التمدد الإمبراطوري، بدأت ألمانيا بالبحث عن مكان لها تحت الشمس كما أعلن مستشار الرايخ برنارت فون بولو، لكنها دخلت سباق الاستعمار في وقت متأخر، وكانت وجهتها بعيدا عن الشرق الأوسط، الذي كانت تتقاسمه بريطانيا وفرنسا.
انتشر الاهتمام بالفكرة الاستعمارية في الأوساط الشعبية، واستغل التجار وأصحاب المصالح الاستعمارية الاقتصادية والسياسية هذا الحماس، غذّت هذه الحمى اعتبارات ومصالح كثيرة وعلى رأسها المصالح الاقتصادية، حيث أتيحت الفرصة للحصول على المواد الخام والأسواق وطرق التجارة.
ترافق ذلك مع أزمة ديمغرافية كانت تمر بها ألمانيا حيث شهدت تدفقا قويا للهجرة خارجها، وكحل للأزمة طرحت فكرة الاستعمار الاستيطاني خارج أراضيها، وروج لها أشخاص مثل مؤسس جمعية الاستعمار الألماني كارل بيترز وغيره من الجهات الفاعلة في الاستعمار التي شجعت على توجيه الهجرة إلى المستعمرات الخاصة.
إضافة لما ذكر، فقد كان يُنظر إلى إنشاء المستعمرات على أنه وسيلة لزيادة المكانة، فالدول الكبيرة يجب أن يكون لديها مستعمرات منتشرة على نطاق واسع رغبة في التأثير العالمي على السياسة الدولية.
الاستعمار الألماني
بدأت ألمانيا بضم مستعمراتها في أفريقيا وآسيا عام 1884 بعد عقد مؤتمر برلين الذي وضع مبادئ توجيهية لتقسيم أفريقيا، وأدى المؤتمر إلى إنشاء ما يسمى “المعاهدات الاستعمارية” والاعتراف بالمطالبات الإقليمية للقوى الأوروبية في أفريقيا.
ما لبثت ألمانيا أن أصبحت في عام 1914 ثالث أكبر إمبراطورية استعمارية من حيث المساحة، وشمل الاستعمار أجزاء من الدول الحالية مثل بوروندي ورواندا وتنزانيا وناميبيا والكاميرون وتوغو وغانا والصين وبابوا غينيا الجديدة والعديد من الجزر في غرب المحيط الهادي.
لكن بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، اضطرت ألمانيا إلى التنازل عن جميع مستعمراتها لقوى استعمارية أخرى وفق معاهدة فرساي (1919)، وبسبب ذلك نجا الألمان من المواجهة مع حركات الاستقلال بعد ذلك.
تغلغل اقتصادي
كان لألمانيا أيضا مواطئ قدم ومصالح اقتصادية، وهي مناطق نفوذ تتجاوز المفهوم الكلاسيكي للاستعمار، ففي أواخر تسعينيات القرن الـ19 في عهد الإمبراطور فيلهلم الثاني كانت السياسة العالمية لألمانيا تهدف إلى تغلغل اقتصادي غير رسمي في المناطق البعيدة.
وأصبحت ألمانيا في المرتبة الثانية عالميا من حيث تصدير رأس المال بعد بريطانيا، وذلك من خلال ريادة الأعمال الخاصة بالدعم الحكومي في أميركا الجنوبية والصين.
أما مع الإمبراطورية العثمانية فقد زاد نفوذ ألمانيا من خلال مشاريع عدة، وخاصة شحنات الأسلحة وصادرات رأس المال.
وكانت ألمانيا تحتكر الأسلحة في السوق العثمانية، إضافة للاستثمارات الألمانية في مشروع السكك الحديدية الذي اكتسب أهمية خاصة لاسيما أن ألمانيا متخصصة في هذا المجال.
فظائع استعمارية
لم تختلف الظروف الاستعمارية كثيرا بالنسبة للمستعمرات الألمانية عن غيرها من المستعمرات، وقد تركت هذه الفترة آثارا عميقة على هذه المجتمعات في فترة ما بعد الاستعمار حتى وقتنا الحالي.
ينقل موقع إذاعة ألمانيا عن مترجم تشادي قوله “الثقة في شركات الأدوية والمانحين الدوليين ليست كبيرة إذ يُعتقد أنهم قد يقومون بتجربة سرية للقاح غير معتمد”.
تعود جذور الشكوك إلى عمق الزمن خلال فترة الاستعمار، حين اعتدى أطباء من أوروبا على السكان في أفريقيا لأغراض كثيرة، لم يكن الطب الاستعماري يهدف لمساعدة الناس، بل كان يخدم الازدهار الاقتصادي وكسب المعرفة الجديدة للعلوم الألمانية وصناعة الأدوية.
قام الأطباء الاستعماريون بحقن البشر بمحاليل زيتية وملحية مؤلمة للغاية بلا سبب، أو تم تعريضهم للصحراء لمعرفة مدى قدرتهم على البقاء هناك، وفق دراسات الباحث تسيمرر.
طبيب نوبل روبرت كوخ مثالا
وقد تحدث هذا الباحث عن المثال الأهم في هذا السياق وهو الطبيب الألماني الحائز على جائزة نوبل في الطب روبرت كوخ، الذي يتصدر اسمه المعهد الوطني للصحة العامة في ألمانيا.
يقول تسيمرر جعلت المخاطر الصحية في القارة الأفريقية الإقامة الطويلة شبه مستحيلة للأوروبيين، وكان من المفترض أن يقوم كوخ هناك بأبحاث حول مرض النوم بناءً على طلب من إدارة الاستعمار الألمانية.
خطط كوخ لحملة واسعة باستخدام مركب يحتوي على الزرنيخ في شرق أفريقيا، أدى لوفاة الآلاف بعد إصابتهم بالآلام والعمى، كان الهدف يتعلق بالحد من انتشار الوباء وليس الشفاء.
بعد ذلك اقترح كوخ إقامة معسكرات الاعتقال لعزل المصابين، أي عزل قرى بأكملها دون إرادتهم، نفذ أيضا حملات تطعيم ضد الجدري في توغو، حيث توفي نحو 5% إلى 10% من الملقحين.
في الحوار الذي أجرته صحيفة فيلت معه، يتساءل تسيمرر هل اسم روبرت كوخ مناسب للقرن الـ21؟ هل يمكن أن يكون حقا مثلا يحتذى به؟ هل يستحق شرف أن يكون راعيًا لهذا المعهد الهام؟
متاحف الجماجم
من الفظائع التي تشهد عليها المتاحف اليوم أيضا الجماجم الأفريقية، فقد كان هناك اهتمام كبير في فترة الاستعمار بالدراسات الأنثروبولوجية والإثنوغرافية، فتم نقل الجماجم إلى ألمانيا.
استُخدمت الجماجم وبقايا الجثث في البحوث التي تركز على النظريات العنصرية، حيث كان يعتقد أنه يمكن استخدام تحليل خصائص الجماجم لاستنتاج تسلسل هرمي للعرقيات كدليل على فوقية السلالات الأوروبية، عدا عن أغراض التحقير، والتظاهر بالقوة أمام الشعب.
في متحف برلين يوجد 1100 جمجمة بشرية من المستعمرة الألمانية في شرق أفريقيا، في عام 2014 تم تسليم 14 جمجمة لوفد ناميبي بعد مشروع بحثي قامت به جامعة فرايبورغ حددت أصولها على أنها من ناميبيا.
ولم تتسامح القوى الاستعمارية الأوروبية مع أدنى شكل من أشكال تمرد السكان، بل سعت إلى الإخضاع الكامل، ونظرت إلى الاستخدام المفرط للعقاب البدني وغيره من أشكال العقوبة البدنية على أنها وسيلة طبيعية تمامًا للحفاظ على النظام الاستعماري.
فخلال انتفاضة “ماجي ماجي” التي حدثت في تنزانيا الحديثة (1905-1907) دمرت البلاد بأكملها، وأزهقت أرواح نحو 300 ألف أفريقي، أي حوالي ثلث السكان في المنطقة.
أما خلال الإبادة الجماعية في ناميبيا لشعبي الهيريرو والناما فقد قتل أكثر 70 ألفا من مجموعة الهيريرو العرقية البالغ عددهم 80 ألفا، ونصف الناما البالغ عددهم 20 ألفا.
كانت هناك أوامر صريحة من القائد الألماني لوثار فون تروثا بأنه “يجب إطلاق النار على كل هيريرو ببندقية أو من دونها، لم أعد أقبل حتى النساء والأطفال”.
تم دفن الآبار وتدمير مصادر الغذاء، ومات جزء كبير منهم في الصحراء، وبعد ذلك تم إنشاء معسكرات الاعتقال ومات عدد كبير من الناس بسبب سوء التغذية والمرض والإرهاق من العمل القسري الشاق.
مراجعات
وفي مايو/أيار 2021 أعلنت الحكومة الفدرالية الألمانية أنها ستعترف رسميا بأن قمع انتفاضة الهيريرو والناما كان إبادة جماعية.
“لا يجب أن ينسى أحد ما حدث في تلك الفترة”، هذا ما قاله الرئيس الألماني فرانك شتاينماير بعد زيارة له لمتحف ماجي ماجي ومحادثته مع أقارب الضحايا، واعدا بمعالجة الماضي، لكن لا أحد يعلم ما طريقة هذه المعالجة ومتى ستبدأ؟
ويشار هنا إلى أن الفترة الاستعمارية لا تُدرسُ في منهاج المدارس الألمانية حتى اللحظة، على الرغم من أن آثار هذه الحقبة حاضرة في الواقع الألماني المعاصر، وفق مختصين في هذا الشأن.
في المقابل، يرى آخرون أن هذا النوع من المراجعات يعتبر تهديدا لأسس الحضارة الغربية ويعمل على تسخين أطروحات الدفاع الاستعماري كما يظهر ذلك في عناوين مقالات عدد من الصحف.
فحسب استطلاع رأي نشره مركز الإحصاء الألماني كان هذا السؤال: هل الفترة الاستعمارية شيء تفتخر به أم تخجل منه؟ أجاب 20% فقط بأنهم يخجلون منه.
وتفسر المؤرخة الألمانية جيسيني كروجر، في مقال لها في موقع التاريخ المعاصر، بأن “ذلك ربما يرتبط بالحنين الاستعماري وبالخسارة النهائية للهيمنة ما بعد الاستعمارية في أفريقيا”.
المصدر : الجزيرة نت