
المسار : كنا في الماضي نخشى الانقلابات… نستيقظ على صوت بيان رقم واحد، وننام على جندي يدوس شارة النصر. أما اليوم، فنخشى الثبات أكثر من الانقلاب، ونتمنى لو أن أحدهم فقط ينقلب على نفسه، على ضميره، على الكرسي… لكن لا شيء يتحرّك، لا الكراسي، لا العقليات، ولا حتى المؤتمرات الصحفية التي ما زالت تنعقد لتُعلن أن “الأوضاع تحت السيطرة”، بينما الشعب فقد السيطرة حتى على سعر ربطة الخبز.
في مسرحية ضيعة تشرين، نشهد أعظم مشهد سياسي ساخر في التاريخ: إعلان تغيير الحكومة! يا للفرح! لكن التغيير ببساطة هو تبادل القبعات بين الشخصيات نفسها. الوزير يلبس قبعة القائد، والقائد يلبس قبعة الشرطي، والشرطي يصبح مراقبًا… أما المواطن؟ فيُطلب منه التصفيق بحماس لأكبر عملية خداع بصري جماعي في الشرق الأوسط.
هذا المشهد بالذات تحوّل إلى سياسة رسمية في بلادنا. التعديل الوزاري لدينا لا يُجري تغييرات، بل يُجري تدويرات. نحتفل به كما نحتفل بتكرار مسلسل رمضان قديم، نعرف النهاية، ونعرف الحوار، لكننا نتابعه لأننا لا نملك الريموت.
وأما المشهد الأبشع، ففي مسرحية لدريد لحّام، حين يضطر الأب لبيع أبنائه الثلاثة، واحدًا تلو الآخر، تحت ضغط الفقر. هذا لم يعد خيالًا مسرحيًا، بل سياسة تشغيل وطنيّة.
بعنا أولادنا للهجرة “الطوعية”، التي تشبه كثيرًا التهجير الإجباري لكن مع استمارة وابتسامة رسمية.
وبعنا كفاءاتنا لأوروبا والخليج، مقابل “فرصة حياة”.
وتركنا الباقي يتكدس في المقاهي والورش والمنصات الإلكترونية، يتأمل في وطنٍ لا يتسع له إلا على شكل صورة بروفايل.
كل هذا يحدث، بينما الأغنية الرسمية التي تُغنّى في أروقة مؤسساتنا تقول:
“لحلحني وأنا لحلحتلو”
مواطن يطلب وظيفة… الوزير يرد: “نحلحلها لما ييجي التمويل”.
الموظف يطلب راتبه… المدير يرد: “بدها شوية لحلحة”.
الخريج يطلب فرصة… المسؤول يبتسم: “حلحلناها، في تدريب ممول”.
وهكذا، تستمر اللحلحة حتى نذوب جميعًا في مستنقع من المماطلة المطلية بالشعارات.
الاحتلال؟ حاضر.
الفساد؟ منكر ومستهجن رسميًا، ومكرّس فعليًا.
الانتخابات؟ حلم جميل… مؤجل حتى تتغير موازين الكواكب.
أما الحريات؟ فهي تخضع حاليًا لـ”مراجعة داخلية”، من قبل لجنة يرأسها من يضيق صدره من “لايك” على منشور.
نحن اليوم في عرض مسرحي مفتوح، بلا نهاية، بلا حبكة، بلا إخراج.
الدور الرئيسي يُمنح دائمًا لمن يصفّق أكثر، لا لمن يُبدع أو يضحي.
والنقد يُصنّف “مؤامرة”، والسخرية “مُخلّة بالسلم الأهلي”، وطرح الأسئلة “إساءة للرموز”، وكأن الوطن لوحة ممنوع لمسها، حتى من شعبه!
في النهاية، نرفع كأسنا كما فعل غوار في ختام “كاسك يا وطن”، لكننا لا نحتفل…
نرفعه لنخب خيبتنا، لنخب وطن نحبّه حدّ الألم، ويُدار كفرقة مسرحية مرتجلة، بلا نص، بلا جمهور، بلا أمل.
كاسك يا فلسطين… كاس مسرحي، مليء بالخداع، مكسور منذ زمن، وكل ما نفعله اليوم هو إعادة ملئه بالأوهام!
والقبعات؟ ما زالت تتبدل… لكن ما تحتها؟ ثابت، موروث، ومُحصّن ضد التغيير منذ أوّل اتفاق وطني لم يُطبّق!
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر المسار الإخباري