مقالات

بقلم” إسماعيل مسلماني”على بُعد حاجز: يوميات فلسطيني في طريقه إلى الحياة

المسار الإخباري :في قلب الضفة الغربية والقدس، لا تبدأ رحلة الفلسطيني إلى عمله أو مدرسته من باب منزله، بل من خلف حاجز.

الحواجز العسكرية المنتشرة في الطرقات ليست مجرد نقاط تفتيش، بل أدوات يومية تعيد تشكيل تفاصيل الحياة، وتفرض واقعًا من الانتظار، التأخير، والقلق.

هذا الواقع لا يُقاس فقط بعدد الحواجز، بل بما تتركه من أثر في حياة الناس، في حركتهم، وفي أحلامهم.

الحواجز ليست مجرد عوائق مادية، بل تجسيد لسياسات تقييد الحركة والسيطرة على الفضاء الفلسطيني.

ورغم قسوة هذا الواقع، يستمر الفلسطينيون في ممارسة حياتهم اليومية بإصرار لا يُكسر، متحدّين الجغرافيا المفروضة عليهم، ومتمسكين بحقهم في التنقل بحرية وكرامة.

في كل صباح، ينهض الفلسطيني حاملاً حلمًا بسيطًا: أن يصل إلى عمله، مدرسته، أو عيادة والدته دون أن يُوقفه حاجز، دون أن يُفتَّش جسده أو يُسأل عن هويته.

لكن الواقع مختلف. فالحواجز المنتشرة لا تكتفي بإعاقة الحركة، بل تسرق من الناس وقتهم، طمأنينتهم، وحتى إحساسهم بالكرامة.

إنها ليست مجرد كتل إسمنتية، بل جدران تفصل الإنسان عن حياته.

ورغم كل الحواجز، لا تزال الحياة تنبض خلف الجدران.

يبتكر الفلسطيني طرقًا للعبور، يزرع الأمل في عيون أطفاله، ويواصل السير رغم التعب.

فالحاجز قد يوقف الجسد، لكنه لا يوقف الروح. وبين الانتظار والتفتيش، تبقى الإرادة أقوى من كل الحواجز.

ولأجل لقمة العيش، ينتظر العمال ساعات طويلة داخل الأقفاص، وبعضهم يقطع أميالًا، ومنهم من يتسلّق الجدار، ليواجه إما رصاصة أو اعتقالًا، أو ينجح بالوصول إلى العمل.

الحواجز العسكرية الإسرائيلية لا تُعد مجرد أدوات أمنية مؤقتة، بل تشكّل بنية تحكم ثابتة تفرض واقعًا نفسيًا واجتماعيًا خانقًا على السكان.

لقد أصبحت جزءًا من البنية التحتية للاحتلال، تنظم حركة الفلسطينيين وتقيّد حياتهم اليومية، وتعيد تشكيل الجغرافيا والعلاقات الاجتماعية.

تشير التقديرات إلى وجود أكثر من 900 حاجز وبنية لعرقلة الحركة داخل الضفة، منها نحو 140 حاجزًا ثابتًا، وأكثر من 560 نقطة تفتيش متنقلة، إلى جانب بوابات حديدية وسواتر وطرق مغلقة.

تتجاوز هذه البنية الضفة، وتمتد لتطوّق القدس الشرقية، محوّلة أحياء مثل العيسوية وبيت حنينا وسلوان إلى جيوب معزولة.

المرور عبر الحاجز لا يعني فقط تأخيرًا زمنيًا، بل احتمال الإذلال، التفتيش، الاحتجاز، أو حتى الإرجاع لأسباب واهية.

هذا الواقع يُنتج شعورًا دائمًا بالعجز وفقدان السيطرة، ما يؤدي إلى آثار نفسية تراكمية تشبه اضطرابات الصدمة الممتدة.

الدراسات الميدانية تشير إلى أن قرب الأفراد من الحواجز يُزيد من معدلات القلق، الاكتئاب، اضطرابات النوم، العدوانية لدى الأطفال، ويفاقم الشعور بعدم الأمان، خاصة في ظل عدم القدرة على الوصول إلى المدارس أو المستشفيات.

أما القدس الشرقية، فأصبحت نموذجًا لـ “التفتيت”، حيث تحولت أحياؤها إلى جزر معزولة بفعل الطرق الالتفافية، الجدران، والحواجز، مما أدى إلى تفكك شبكات العلاقات الاجتماعية، وتراجع المشاركة في المناسبات والمجال العام.

اجتماعيًا، ولّدت هذه الحواجز نوعًا من الحصار النفسي، حيث يشعر الفرد بأنه تحت رقابة دائمة، ما يعزز الخوف، العزلة، وانعدام الثقة، ويضعف قدرة الإنسان على تخطيط مستقبل مستقر.

الحواجز لم تعد مجرد أدوات مادية، بل أدوات لإعادة تشكيل الذات، المجتمع، والمدن.

إنها بنية تفكيك صامتة، تترك أثرًا عميقًا في النفس الفلسطينية، وتعيد رسم حدود الحياة اليومية بالخوف والانكماش.