
المسار الإخباري :تُعرّف الهندسة الإدراكية بأنها عملية مقصودة لإعادة تشكيل المفاهيم والتصورات الذهنية لدى الأفراد والمجتمعات، من خلال التحكم في المعلومات والخطاب والرموز والصور. وتُستخدم هذه العملية لتوجيه الإدراك الجمعي نحو فهم معين يخدم أهدافًا سياسية أو أيديولوجية.
ولم تكن “إسرائيل” بمنأى عن هذه الاستراتيجية، بل سعت منذ نشأتها إلى ترسيخ رواية خاصة بها عبر إعادة تشكيل الواقع السياسي والتاريخي والجغرافي، بهدف تطبيع الاحتلال وتبرير الاستعمار. فهي لا تكتفي بالبروباغندا الإعلامية، بل توظّف الهندسة الإدراكية داخل المناهج، والخرائط، والخطاب الأكاديمي، والقانون الدولي، وحتى وسائل التواصل الاجتماعي.
نزع الصفة الاستعمارية وطمس الهوية الفلسطينية
واحدة من أخطر ملامح هذه الهندسة هي محاولة نزع الطابع الاستعماري عن المشروع الصهيوني، وتصويره كـ”حركة تحرر مشروعة”، في مقابل وصف الفلسطينيين كجماعات بلا هوية أو كتهديد أمني. وتُقدم الجرائم اليومية ضد الفلسطينيين كـ”دفاع عن النفس”، بينما تُضخّم أعمال المقاومة وتُصنّف كـ”إرهاب”.
الهندسة عبر القانون والإعلام
تُمارس “إسرائيل” هذه الاستراتيجية على مستويين متوازيين:
قانونيًا: عبر تفريغ القانون الدولي من مضمونه حول حق العودة وتقرير المصير.
إعلاميًا: بتضخيم الرواية الإسرائيلية، وتحجيم الرواية الفلسطينية، واستخدام مصطلحات مثل “الكيان الفلسطيني” أو “السكان العرب” بدلاً من “الشعب الفلسطيني”.
الخرائط والذكاء الاصطناعي كأدوات للهيمنة
تلعب الخرائط دورًا مركزيًا في تكريس رواية الاحتلال، حيث يتم تجاهل حدود 1967 وتضمين المستوطنات كجزء من “إسرائيل”. كما تُوظف التكنولوجيا، خاصة الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات، في رصد وتوجيه الخطاب العام، وإعادة برمجة أولويات النقاش داخل الفضاء الإلكتروني بما يخدم مصالح الاحتلال.
الإذاعة الإسرائيلية: سلاح ناعم لتطبيع الوعي
استخدمت “إسرائيل” إذاعة “صوت إسرائيل” كأداة دعائية مؤثرة، استهدفت العقل الفلسطيني من خلال برامج حياتية وترفيهية تبدو قريبة من الناس، لكنها كانت محمّلة برسائل تطبيعية وتبريرية للاحتلال. كما استُخدمت مصطلحات مدروسة مثل “الإدارة المدنية” بدلاً من “الاحتلال العسكري”، و”المخربين” بدلاً من “المقاومين”، لتغيير المفاهيم في اللاوعي الفلسطيني.
إعلام ناطق بالعربية… يروّج للرؤية الصهيونية
المتحدثون الرسميون الإسرائيليون، مثل أوفير جندلمان ومائير كوهين، يُجيدون التلاعب بالمفاهيم والمصطلحات لتقديم صورة “عقلانية” للصراع، مستغلين الإعلام والمؤتمرات والفضاء الرقمي لترسيخ الاحتلال كأمر واقع، وتحويل القضية الفلسطينية إلى “أزمة إنسانية” لا أكثر.
التطبيع الناعم والمؤسسات الأكاديمية
تعمل “إسرائيل” على تطبيع وجودها الاستعماري عبر المشاريع الاقتصادية والتبادل الأكاديمي، متجاهلة السياق الاحتلالي. وتُنتج المؤسسات البحثية الإسرائيلية محتوى معرفي يعيد صياغة التاريخ والجغرافيا لخدمة الهندسة الإدراكية، مستخدمة مصطلحات مثل “الصراع المعقد” لتضليل الرأي العام العالمي.
المفهوم الإسرائيلي للأمن… قمع مغلّف بالشرعية
على المستوى الدولي، تستثمر “إسرائيل” في ترسيخ صورتها كـ”ضحية محاصرة” مهددة وجوديًا، لتبرير قمع الفلسطينيين وإفلاتها من المحاسبة الدولية. يُعاد بذلك تعريف “الأمن” ليُستخدم كذريعة لقمع الحقوق والحريات.
في الختام
الهندسة الإدراكية الإسرائيلية ليست مجرد حملة إعلامية، بل هي إستراتيجية متكاملة تشمل الإعلام، القانون، التكنولوجيا، التعليم، والمصطلحات، بهدف تشويه الرواية الفلسطينية وتكريس الاحتلال. وهي معركة وعي لا تقل خطورة عن المعركة على الأرض، إذ تهدف إلى إنتاج أجيال لا تُدرك ظلم الاحتلال، بل تتعايش معه وتُبرره دون وعي.