المسار : فيينا – “انتقاد إسرائيل في ألمانيا بات يعرّض صاحبه لخطر الملاحقة القانونية”، بهذه الكلمات لخّص السياسي الألماني يورغن تودنهوفر المشهد في بلاده لجهة التحيّز المطلق لتل أبيب، مؤكدًا أن “الناس يُجبرون على الصمت” مخافة ملاحقتهم بالقوانين القاسية التي باتت بمثابة “سيف فوق رؤوسهم”.
تودنهوفر، وهو رئيس حزب “فريق تودنهوفر” (Team Todenhöfer)، أعرب في مقابلة مع “الأناضول”، عن مخاوف تسيطر على الناس من مختلف الفئات والشرائح في ألمانيا، جراء التشدد والتضييق القانوني بحق كل من ينتقد إسرائيل.
و”فريق تودنهوفر” هو حزب ألماني صغير تأسس في 2020، بعد انسحاب رئيسه ومؤسسه يورغن من حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (CDU).
تودنهوفر: لن أتوقف عن الكلام والكتابة ما دمت أتنفس. ما يخيفني ليس القضايا المرفوعة ضدي، بل فقدان ألمانيا لقيمها
أما تودنهوفر نفسه، فقد كان عضوًا في البرلمان الألماني من 1972 إلى 1990 عن حزب “الاتحاد الديمقراطي المسيحي”، إلى جانب كونه كاتبًا وصحفيًا.
وفيما تعد ألمانيا من بين البلدان الأوروبية الأكثر انحيازًا لإسرائيل، يمثل تودنهوفر وحزبه شريحة تغرد خارج سرب الأكثرية في بلادهم.
“طريق خطير”
يقول تودنهوفر إن السلطات الألمانية أصدرت قرارًا بتفتيش منزله ومصادرة أجهزته الإلكترونية بعد انتقاده إسرائيل ووصفه حربها على قطاع غزة بـ”الإبادة الجماعية”.
الإبادة التي بدأت في 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، واستمرت عامين، أسفرت عن استشهاد 68 ألفًا و527 فلسطينيًا، وإصابة 170 ألفًا و395 آخرين، قبل أن تنتهي باتفاق وقف إطلاق نار دخل حيز التنفيذ في 10 أكتوبر 2025.
ويضيف: “في ألمانيا، يخشى الناس انتقاد إسرائيل لأنهم قد يُلاحقون قضائيًا، الصحافيون والفنانون والمواطنون العاديون… كل من ينتقد إسرائيل يواجه خطر اعتباره مجرمًا، هذا طريق خطير للغاية”.
وبيّن أن المحكمة أصدرت قرارًا بمداهمة منزله ومصادرة هواتفه وحواسيبه، لكن ذلك لم يُنفّذ بعد لأن السلطات “تواجه صعوبة” في تحديد مكان سكنه “المحميّ أمنيًا”.
تودنهوفر اعتبر القرار بحقه بمثابة “سيف معلّق فوق رأسه”، موضحًا أنه أصبح يتردد في كتابة أو قول أي شيء خشية العقوبة، ما يقيّد حريته الشخصية.
وفي حين أن المادة 13 من الدستور الألماني تكفل حرمة المساكن، وفق ما يوضح، إلا أنه لم يعد يشعر بأي حماية، لأن الشرطة تملك الحق في دخول منزله في أي لحظة.
ورغم تقديمه طلبًا لإلغاء القرار القضائي، يؤكد تودنهوفر أن النيابة العامة والمحاكم الألمانية ما زالت تتعامل معه بطريقة غير متناسبة، مشيرًا إلى أن عشرات البلاغات تُقدَّم ضده بسبب آرائه المنتقدة لإسرائيل.
“معاداة السامية اتهام سخيف”
وفي معرض حديثه عن تطرف السلطات والقوانين بالتحيز لإسرائيل وزعمائها بغض النظر عن وضعهم القانوني، انتقد تودنهوفر دعوة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى ألمانيا رغم أنه ملاحق بأمر اعتقال صادر من المحكمة الجنائية الدولية بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية.
وأكد تودنهوفر قائلًا: “إسرائيل ترتكب جريمة مروّعة في غزة، كنت هناك (في فلسطين) قبل 6 أسابيع، وزرت الضفة الغربية مجددًا، ما يجري لا يُصدّق، المستوطنون الإسرائيليون يهاجمون الفلسطينيين وهناك قتلى يوميًا”.
وروى مشاهدته بأمّ عينه إحراق المستوطنين 7 سيارات أمام منزل فلسطيني، وقال: “عندما وصلت قوات الجيش الإسرائيلي، أطلقت النار على المدنيين الفلسطينيين بدل إيقاف المعتدين، ما أدى إلى مقتل أحد السكان”.
وأضاف تودنهوفر: “تحدثتُ مع زوجة الضحية. لا يمكن السكوت عن هذا. وفي غزة يُقتل يوميًا نحو 100 إنسان، ومن واجبنا قول الحقيقة”.
وانطلاقًا من هذا الواقع، اعتبر السياسي الألماني أن “وصف كل من ينتقد نتنياهو بأنه معادٍ للسامية أمر سخيف”.
كما انتقد المستشار فريدريش ميرتس لدعوته نتنياهو إلى ألمانيا رغم كونه مطلوبًا بمذكرة اعتقال دولية.
وقال: “المستشار الألماني يدعو مجرم حرب إلى بلاده، ولا أحد يعترض. هذا انتهاك واضح للقانون، لأن ألمانيا تعهدت باحترام جميع قرارات المحكمة الجنائية الدولية، وكان يجب اعتقال نتنياهو وتسليمه”.
وأردف: “ميرتس هو من خالف القانون بدعوته نتنياهو، بينما تتم ملاحقتي قضائيًا فقط لأنني انتقدته”، مؤكدًا أن “هناك مواطنين ألمانيين آخرين يتعرضون لعقوبات مماثلة لمجرد انتقادهم إسرائيل”.
“نصمت مخافة العقوبة”
وتطرق تودنهوفر إلى أن “لدى الألمان علاقة خاصة بإسرائيل بسبب التاريخ والذنب الجماعي المرتبط بالمحرقة”، في إشارة إلى الهولوكوست، “لكن ذلك لا يبرر الصمت على جرائم الحرب التي تُرتكب اليوم في الأراضي الفلسطينية”، وفق تأكيده.
وأضاف: “في ألمانيا لم يعد أحد يتكلم تقريبًا، لأن لا أحد يريد أن تُفتح ضده دعوى قضائية. أتعاب المحامين التي أدفعها تكلفني آلاف اليوروهات، لذلك يختار الناس الصمت، لكن الدستور لا ينص على الصمت، بل يضمن حرية التعبير”.
ورأى تودنهوفر أن كثيرين في ألمانيا يدعمون حكومة نتنياهو بشكل أعمى خوفًا من اتهامهم بمعاداة السامية، وهي التهمة الجاهزة التي تسبغها إسرائيل على كل من لا يناصرها أو حتى ينتقد زعماءها.
وأشار تودنهوفر إلى أن وزارة الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلية تقوم بدور أشبه بـ”وزارة دعاية”، ولفت إلى أن “الوزير الحالي رون ديرمر (وزير الشؤون الإستراتيجية) كان سفير إسرائيل في واشنطن خلال حرب 2014 على غزة، حين قُتل أكثر من 2000 فلسطيني”.
وقال إن “ديرمر زعم آنذاك أن إسرائيل تستحق جائزة نوبل للسلام لأنها تعامل الناس هناك بلطف”، مشيرًا إلى أن هذا التصريح “استهزاء بآلام الضحايا”.
وأضاف تودنهوفر أن “نفوذ هذه الوزارة يمتد إلى العديد من الدول الغربية”، لافتًا إلى أن “كل من ينتقد نتنياهو بشدة في ألمانيا قد يُحرم من الجنسية أو من فرصة عمل”.
تودنهوفر: نتنياهو يحتاج إلى الحرب. إذا لم تكن غزة، فستكون إيران، وقبلها لبنان، وربما لاحقًا اليمن. سيستغل كل فرصة لإبقاء النار مشتعلة
وتابع: “العديد من الفلسطينيين كانوا يشاركون في فعالياتنا، لكنهم توقفوا خوفًا من رفض طلبات تجنيسهم أو وظائفهم بسبب مشاركتهم في أنشطة داعمة لفلسطين”.
“الصامت يشارك نتنياهو بجرائمه”
وحول الهدف الشخصي غير المعلن للحرب، أشار تودنهوفر إلى أن نتنياهو، الذي يُحاكم حاليًا في إسرائيل بتهم فساد ودوليًا بتهم جرائم حرب، سيضطر لمواجهة المحكمة، وقد ينتهي به الأمر في السجن، لكنه “يسعى لإطالة أمد الحروب لصرف الأنظار عن قضاياه الداخلية”.
وأكد أن “نتنياهو يحتاج إلى الحرب. إذا لم تكن غزة، فستكون إيران، وقبلها لبنان، وربما لاحقًا اليمن. سيستغل كل فرصة لإبقاء النار مشتعلة”.
وقال تودنهوفر: “سأواصل قول الحقيقة بصفتي صديقًا لإسرائيل يرى أن ما يجري هناك خطأ فادح”.
وشدد السياسي الألماني على أن “الحقيقة أن نتنياهو يرتكب جرائم، ومن يصمت عنها يصبح شريكًا له”.
ولفت إلى أن “محاكمة من يدافعون عن الإنسانية دليل على أن الديمقراطية الألمانية في خطر”.
وختم تودنهوفر بالقول: “لن أتوقف عن الكلام والكتابة ما دمت أتنفس. ما يخيفني ليس القضايا المرفوعة ضدي، بل فقدان ألمانيا لقيمها. يجري إسكات الناس فقط لأنهم يعبّرون عن آرائهم… هذا نهج خطير”.

