المسار يشهد القطاع الخدمي في غزة انكماشًا غير مسبوق، بعد أن كان لعقود العمود الفقري للاقتصاد المحلي ومصدر الدخل الرئيسي لعشرات الآلاف من الأسر. فمع اندلاع الحرب في أكتوبر 2023، دمّرت البنية التحتية والمرافق الحيوية التي يعتمد عليها هذا القطاع، ما أدى إلى تراجع حاد في الدخل وارتفاع معدلات البطالة وتوقف الحركة التجارية.
قبل الحرب، كان القطاع الخدمي يشكّل نحو 55% من الناتج المحلي الإجمالي، ويستوعب أكثر من نصف القوى العاملة، لكن مع الدمار الواسع الذي طال المدارس والمستشفيات والمنشآت التجارية، تقلّص نشاطه إلى أقل من الربع. وتشير التقديرات إلى أن عدد العاملين فيه انخفض من نحو 147 ألفًا إلى ما بين 50 و60 ألفًا فقط، أي فقدان أكثر من ثلثي القوة العاملة خلال أشهر معدودة.
ورغم قتامة المشهد، تبرز مبادرات فردية تحاول إعادة عجلة الحياة إلى الدوران. أنور رامي، صاحب كافتيريا في غزة، اضطر إلى نقل مشروعه من مخيم جباليا إلى منطقة الميناء بعد تدمير المكان الأصلي، ليبدأ من جديد بإمكانات محدودة. يقول: “لم يكن أمامي خيار سوى المحاولة، استأجرت مكانًا صغيرًا فقط لأعيد العمل وأساعد العمال الذين يعتمدون على هذا المشروع في إعالة أسرهم”.
ومع وقف إطلاق النار، بدأ الزبائن يعودون تدريجيًا، لتتحول الكافتيريا الصغيرة إلى نافذة أمل في زمن الركام.
تجربة الطبيب محمد فضل من خانيونس لا تقل قسوة؛ إذ فقد عيادته بالكامل بعد قصف المبنى الذي كانت تقع فيه. ورغم الدمار، أعاد افتتاح عيادة مؤقتة في مخيم النصيرات بإمكانات بسيطة. يقول: “نعمل بأجهزة مستعملة جلبناها من الأصدقاء، لكن نقص المواد الطبية يجعل العمل شبه مستحيل”. ويؤكد أن استمرار إغلاق المعابر يمنع أي تعافٍ حقيقي للقطاع الصحي والخدمي.
ويرى الخبير الاقتصادي عماد لبد أن القطاع الخدمي يمتلك قدرة أعلى على النهوض مقارنة بالقطاعات الإنتاجية الأخرى، “لأنه يعتمد على الكفاءات البشرية والأنشطة المحلية أكثر من اعتماده على المواد الخام”، لكنه يشدد في الوقت ذاته على أن التعافي الكامل يتطلب إعادة الإعمار وفتح المعابر وتوفير تمويل دولي يعيد تشغيل المؤسسات ويدعم المبادرات الصغيرة.
ورغم هشاشة الواقع، تبقى قصص الصمود اليومية مؤشراً على إرادة الحياة في غزة، حيث يحاول الناس إعادة بناء ما تهدّم بأيديهم، مؤمنين بأن الأمل هو رأس المال الأخير الذي لا يمكن للاحتلال تدميره.

