“عصر الإبادات”.. حين يصبح القانون بلا ضمير والعدالة بلا ذاكرة

المسار : يبدأ كتاب “عصر الإبادات” للباحث الإسباني خوسيه أنخيل لوبيث خمينيث بجملة افتتاحية حادّة النبرة:

“الإبادة الجماعية هي أبشع أشكال العنف، لكنها في عصر المعلومات والضجيج الإعلامي فقدت دقّتها الأخلاقية واللغوية”.

منذ السطر الأول، يعلن الكاتب مهمته: إعادة تعريف المفاهيم القانونية الكبرى — الإبادة، الجرائم ضد الإنسانية، جرائم الحرب، العدوان — وتبسيطها للقارئ غير المتخصص دون أن يفرّط في الدقّة أو يتحوّل إلى درس أكاديمي جاف.

يتتبع خمينيث في كتابه رحلة الدم والعدالة عبر قرنٍ من الزمن، من الهولوكست النازي إلى إبادة الأرمن، مروراً بـ رواندا وسربرنيتسا ودارفور والروهينغا واليزيديين، وصولاً إلى أوكرانيا وفلسطين اللتين تمثلان، في رأيه، ذروة فشل النظام الدولي في حماية الإنسان من آلة الحرب.

الكاتب لا يجامل أحداً. فهو يصف ما يجري في غزة بأنه إبادة جماعية مكتملة الأركان بالمعنى القانوني والسياسي، منتقداً الصمت الغربي والتواطؤ الدولي. ويرى أن المشكلة ليست في غياب القانون أو المؤسسات القضائية، بل في غياب الإرادة السياسية. يقول:

“القانون موجود، والمحاكم قائمة، لكن العدالة لا تزال عمياء أمام الضحايا الذين لا يملكون حلفاء أقوياء”.

وفي سردٍ شيّق، يستعرض خمينيث تطور العدالة الدولية منذ محاكم نورنبرغ وطوكيو بعد الحرب العالمية الثانية، وصولاً إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي ودور محكمة العدل الدولية، قبل أن يخلص إلى قناعة مريرة: “لا أحد يحاكم الأقوياء”.

لكن الكتاب لا يكتفي بتوثيق الجرائم أو نقد القوانين. إنه ينحاز إلى الذاكرة الإنسانية باعتبارها شكلاً من أشكال المقاومة. فالذاكرة، كما يقول، تحمي الضحايا من الإبادة الثانية — إبادة المعنى — حين يُمحى اسمهم من التاريخ.
ومن هذا المنطلق، يبدو “عصر الإبادات” أكثر من مجرد دراسة قانونية؛ إنه صرخة إنسانية ضد النسيان، وضد ما يسميه المؤلف “تآكل الضمير العالمي” في زمن السرعة والمصالح.

لا يتحدث لوبيث خمينيث من برجٍ أكاديمي، بل من موقع الشاهد الذي يرى أن القانون الدولي فقد إنسانيته، وأن العدالة تحوّلت إلى ديكور في عالمٍ تتسع فيه المعرفة بقدر ما تتراجع القيم.
وفي ختام الكتاب، يضع القارئ أمام سؤالٍ موجع يبقى معلقًا في الذاكرة:

“هل نعيش في زمنٍ تتراجع فيه العدالة بقدر ما تتسع المعرفة؟”

Share This Article