حرب الزمان والمكان والعمارة على “الإبراهيمي”.. تهويد يومي واستيلاء متواصل

المسار : في ظلّ ما يُعرف بـ”حالة الطوارئ” التي تفرضها “إسرائيل” منذ الحرب على غزة (أكتوبر/ تشرين أول 2023)، تتكشّف فصول جديدة من معركة تهويد المسجد الإبراهيمي في مدينة الخليل جنوب الضفة الغربية، إذ يحوّل الاحتلال الزمان والمكان والعمارة إلى أدواتٍ للسيطرة، في واحدة من أخطر حلقات حرب الهوية التي تشهدها فلسطين.

جذور التهويد: من 1967 إلى مجزرة 1994

في اليوم التالي لحرب عام 1967، شرع الاحتلال الإسرائيلي في تنفيذ أولى خطوات مشروعه لتهويد قلب مدينة الخليل، مستهدفًا المسجد الإبراهيمي وزرع مستوطنة “كريات أربع” كنواة استيطانية تُغيّر وجه المدينة الحضاري.

ومنذ ذلك الحين يخوض المسجد معارك متواصلة للحفاظ على هويته الدينية والوطنية في مواجهة مخططٍ ممنهج لسلخ المدينة عن محيطها الفلسطيني.

وعلى مدار العقود التالية، توالت الإجراءات الإسرائيلية لترسيخ السيطرة على “الإبراهيمي” وتحويله من معلم ديني خالص إلى موقع عسكري واستيطاني في آن واحد، فبعد إقامة مستوطنة كريات أربع عام 1968 كمركز أيديولوجي للحركة الدينية المتطرفة، شهد المسجد سلسلة اقتحامات كان أبرزها عام 1972 حين دخله المتطرف مئير كهانا، زعيم حركة “كاخ”، في خطوة رمزية لاختبار ردود الفعل الفلسطينية.

وفي عام 1976، اقتطع الاحتلال ما يُعرف بـ”العنبر الكبير” وحوّله إلى ثكنة عسكرية رغم احتوائه على محرابٍ للمسلمين، ثم تبع ذلك في عام 1983 بتحويل أجزاء منه إلى مدرسة دينية يهودية.

أما عام 1994 فشكّل نقطة مفصلية حين ارتكب المستوطن باروخ غولدشتاين مجزرة داخل الحرم أثناء صلاة الفجر، راح ضحيتها 29 فلسطينيًا.

أعقبتها لجنة “شمغار الإسرائيلية بقرار تقسيم الحرم مكانيًا وزمانيًا، ما جعل المسجد التاريخي يعيش تحت قيود مزدوجة من الاحتلال والإجراءات الأمنية التي ما زالت مستمرة حتى اليوم.

مرحلة جديدة من التهويد بعد أكتوبر 2023

ومنذ السابع من أكتوبر 2023، شهد المسجد الإبراهيمي تحولات غير مسبوقة في السيطرة عليه، إذ لم تعد اقتحامات المستوطنين مجرد طقوس نادرة، بل أصبحت حدثًا يوميًا، حيث أقاموا طقوسًا تلمودية داخل المسجد نفسه، في الوقت الذي يُمنع فيه المصلون المسلمون من الدخول ويُحظر رفع الأذان مرات عديدة خلال اليوم.

ورغم أن الاحتلال فرض بعد مجزرة 1994 تقسيمًا زمنيًا ومكانيًا محدودًا، فإن الحملة المستمرة منذ حرب غزة تجاوزت كل ما حدث سابقًا، لتصل إلى استيلاء شبه كامل على المسجد، مع إجراءات أمنية صارمة تشمل تركيب إنذارات وإضاءات، ورفع الأعلام الإسرائيلية فوق المبنى، كلها دون أي تنسيق مع وزارة الأوقاف الفلسطينية، التي دعت إلى تحرك دولي عاجل لوقف هذه الانتهاكات وحماية المكان.

وهذا ما تؤمدة الباحثة ضحى عمر قائلةً إنّ “الاحتلال كثف من ممارساته التهويدية بعد السابع من أكتوبر 2023، عبر فرض قيود مشددة على هوية المكان والزمان والعمارة، ومنع طواقم الأوقاف من ممارسة عملها.

ويشير عمر في حديث مع إلى أن ما يجري ليس عشوائيًا، بل يندرج ضمن مشروع استيطاني فريد يستهدف قلب مدينة الخليل مباشرة، بخلاف نمط الاستيطان التقليدي الذي يتركز في الأطراف، حيث يسعى الاحتلال إلى فرض واقع ديموغرافي وأمني جديد يربط المستوطنات المحيطة بالحرم ومحيطه التاريخي.

الطوارئ.. غطاء للهيمنة

ويرى متابعون لشؤون المسجد الإبراهيمي أن الاحتلال استغلّ عامي الحرب لتسريع وتيرة التهويد، مستخدمًا حالة الطوارئ كغطاء قانوني وإعلامي لتبرير انتهاكاته.

ويقول مدير المسجد الإبراهيمي السابق حفظي أبو إسنينة، إن الاحتلال يوظف الطوارئ لاستنفاذ كل الوسائل الممكنة لترسيخ سيطرته، مشيرًا إلى أن منع رفع الأذان بات يتجاوز 100 مرة شهريًا، وأن غرفة الأذان أصبحت تحت السيطرة الإسرائيلية المباشرة.

ويضيف أبو إسنينة  أن الاحتلال نظّم حفلات صاخبة داخل المسجد وباحاته، في سلوكٍ يتنافى مع قدسية المكان، ويؤكد على طابع الهيمنة الممنهجة.

فيما يُسلّط مراقبون الضوء على الأدوات المستحدثة التي يستخدمها الاحتلال لتكريس سيطرته، مثل اختراع أعياد دينية جديدة لإغلاق الحرم أمام المسلمين، كـ”يوم سبت سارة” و”مسيرة فرنسا”، لتضاف إلى سلسلة أعياد تكاد لا تنتهي.

وتشير مصادر صحفية إلى أن الاحتلال نجح في تنفيذ نحو 80% من خطته التهويدية، عبر إنشاء ما يُعرف بـ”بلدية المستوطنين”، التي تضم أحياءً مثل كريات أربع، تل الرميدة، شارع الشهداء، حارة السلايمة، ووادي الحصين وغيرها، في محاولة لمزاحمة بلدية الخليل والأوقاف الإسلامية على إدارة المكان.

وتصف المصادر مشروع المصعد الكهربائي داخل المسجد بأنه خطوة تهويدية مقنّعة، جاءت بذريعة خدمة كبار السن، لكنه في الحقيقة مخصص للمستوطنين فقط، إلى جانب محاولات الاحتلال تسقيف الساحات المفتوحة لتغيير الطابع العمراني لـ “الإبراهيمي”.

من جانبه يرى الناشط مهند قفيشة أن تسارع وتيرة التهويد في المسجد ومحيطه يبعث على القلق، محذرًا من أن سرقة البيوت المجاورة تمثّل جزءًا من خطة السيطرة الكاملة على المنطقة.

ويؤكد قفيشة أن بقاء المواطنين في محيط الحرم وزيارته المستمرة هو شكل من أشكال المقاومة اليومية، داعيًا إلى عدم الخضوع لحملات التخويف من التواجد في المنطقة.

ويشدد أنّ “الحفاظ على الحرم لا يكون بالكلام، بل بالحضور والصلاة والوجود.. هذا هو الردع المعنوي الحقيقي للمتربصين به”.

Share This Article