المسار : مفارقة السيطرة المُطلقة وتجميد السياسة
في المشهد الراهن، يتجاوز التوسع المحموم في نصب وإغلاق البوابات الحديدية في الضفة الغربية كونه إجراءً أمنياً تكتيكياً؛ إنه تأكيد صارخ على تحول استراتيجي نحو نظام سيطرة مُطلقة يهدف إلى تجميد الخيار السياسي الفلسطيني برمته. لم تعد هذه البوابات مجرد حواجز، بل باتت حجر الزاوية في استراتيجية “العزل المُهيكَل”، التي لا تسعى لضبط الأمن الآني فحسب، بل لترسيخ واقع ديمغرافي وسياسي غير قابل للانعكاس. إننا أمام هندسة مكانية تحوّل التجمعات الفلسطينية إلى “جيتوهات” (Ghettos) مُحكمة الإغلاق، بما يخدم الرؤية الإسرائيلية الكبرى لإعادة تشكيل المنطقة.
العزل الكانتوني وتصفية الفضاء المتصل
تتعدى دلالة “البوابات” حدود الأمن الموضعي لتلامس العصب الحيوي للمشروع الاستيطاني، فهي التطبيق العملي لمبدأ إجهاض إمكانية السيادة الفلسطينية عبر التفتيت الكانتوني المُتعمد. بفعل هذه البوابات، يتحول المشهد الجغرافي إلى أرخبيل من الجزر الإدارية المعزولة، ما يمنع تبلور أي كيان اقتصادي أو سياسي متصل، ويُحيل مفهوم “الدولة المتصلة” إلى فرضية نظرية مستحيلة التطبيق. إن تثبيت هذه الهياكل الحديدية على مفترقات الطرق الرئيسية يؤكد تحول الفصل الجغرافي إلى أداة دائمة، حيث تُصادر الطرق الفلسطينية الحيوية لتتحول إلى شرايين حصرية لكتل المستوطنات، عازلةً الفلسطينيين في جيوبهم الخلفية.
البوابات وتآكل القانون: “البوابات البشرية” للمستوطنين
يرتبط هذا النظام الهيكلي بظاهرة خطيرة تتمثل في تآكل سلطة القانونلصالح نفوذ الميليشيات الاستيطانية. فالمستوطنون، وتحديداً جماعات “فتيان التلال” (Hilltop Youth)، لا يعملون بمعزل عن المؤسسة الرسمية، بل يشكلون “بوابات بشرية” ورديفة للنظام الحديدي. يتمثل دورهم الوظيفي في تفعيل العزل وإدامة التوتر؛ إذ تُستخدم اعتداءاتهم الممنهجة على مداخل القرى كذريعة عملية لشرعنة الإغلاق الرسمي والدائم للبوابات من قبل الجيش. هذا التخادم المزدوج (بين البوابة العسكرية والعنف البشري) يقود إلى عملية تطهير صامت، عبر رفع كلفة البقاء وتوسيع دائرة النفوذ الإسرائيلي.
تغيير الأجندة: هندسة الصراع لوجستياً
يتمظهر العمق السياسي لهذه الاستراتيجية في إعادة تعريف جوهر الصراع، عبر تحويل القضايا السيادية الكبرى إلى قضايا إدارية ولوجستية صغرى. تنجح هذه السياسة في حرف الأولويات الفلسطينية من التفاوض على الحدود والسيادة، إلى التفاوض اليومي المضني على توقيت فتح وإغلاق بوابة. هذا التخفيض القسري لسقف المطالب يمثل استنزافاً سياسياً يهدف لترسيخ التبعية الكاملة للسلطة القائمة بالاحتلال، مُبقياً المجتمعات الفلسطينية تحت سيف التهديد الدائم بالإغلاق الشامل، ومُفشلاً أي محاولة لاستعادة زمام السيطرة المدنية.
البعد القانوني والتاريخي: تجاوز نموذج “الأبارتايد”
من منظور القانون الدولي، لا يمكن فصل البوابات عن تكييفها كـ عقاب جماعي محظور بموجب اتفاقية جنيف الرابعة؛ فاستخدام ذريعة “الأمن” لمعاقبة مئات الآلاف مدنياً هو انتهاك جسيم للقانون الدولي الإنساني. أما تاريخياً، فإن هذا النظام يُعيد إنتاج نموذج الفصل العنصري (Apartheid) وسياسة “البانتوستانات”. إلا أن البوابات الحديدية في الضفة ليست مجرد استحضار لتاريخ جنوب أفريقيا، بل هي تجاوزٌ تقني له؛ فهي تمثل النسخة الأحدث والأكثر تطوراً تكنولوجياً من الاستعمار، حيث يتحول الحاجز من نقطة تفتيش مؤقتة إلى هيكل سيطرة دائم يعمل بكفاءة آلية لخنق السكان متى اقتضت الضرورة.
الخنق الممنهج وتفكيك المناعة الاجتماعية
أخيراً، لا يمكن إغفال الأثر التدميري لهذه الإجراءات على بنية الصمود الفلسطيني. البوابات هي آليات لـ الخنق الاقتصادي والاجتماعي؛ حيث يُنشئ الإغلاق المتكرر “اقتصاديات إقليمية محاصرة”، رافعاً التكلفة المعيشية للمواطن الفلسطيني لتقويض استقلاله المادي. والأخطر هو الأثر النفسي؛ فالعزل يمزق النسيج الاجتماعي ويغذي حالة من الإحباط الجماعي المنهجي، وهو استنزاف مدروس يهدف إلى كسر الإرادة الوطنية عبر إغراق المواطن في تفاصيل البقاء اليومي، دافعاً إياه نحو خيارات الهجرة الصامتة.
فإن البوابات الحديدية ليست مجرد حديد وأقفال، بل هي “بيان سياسي” يُفرض على الأرض؛ رسالة مفادها أن استراتيجية الفصل وعزل الفلسطينيين هي استراتيجية نهائية. هي إعلان صريح عن نهاية الحلول التفاوضية وبداية حقبة “نظام الجيتوهات”. لذا، فإن المواجهة الفعالة لهذا الواقع
لا تقتصر على المطالبة بـ “إعادة الفتح”، بل تتطلب حراكاً دبلوماسياً وقانونياً دولياً لفضح الهدف الاستراتيجي الكامن خلفها: تفكيك البنية التحتية للحياة الوطنية الفلسطينية بأكملها.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر المسار

