الكاتب : أوري بار يوسف
هناك حقيقة يجب أن تُقال بصراحة تامة: إسرائيل مصابة بسرطان، واسمه الاحتلال. ظهرت أولى أعراض هذا الورم الخبيث مباشرة بعد حرب عام 1967، ومنذ ذلك الحين وهو يتمدّد بلا توقف — أحياناً ببطء، وأحياناً، كما يحدث اليوم، بسرعة قاتلة. أول من شخّص هذا المرض كان الفيلسوف يشعياهو ليبوفيتش، ثم جاء إسحاق رابين ليعزز هذا التشخيص حين قال عام 1976 إن جماعات الاستيطان الدينية تمثل ورماً ينهش النسيج الاجتماعي–الديمقراطي للدولة.
وكما في كل الأمراض السرطانية، يمكن لهذا الاحتلال أن يفتك بالمريض إن لم يُعالَج كما يجب. وبعد ما يقارب ستة عقود من بدايته، أصبح واضحاً أن إسرائيل — دولةً ومجتمعاً وقيادة — عاجزة عن مواجهة هذا الورم وحدها، حتى مع تزايد كلفته وضرره. فقد ضاعت فرصة العلاج في بدايتها، عندما قررت حكومة تلك المرحلة، تحت ضغط قوى سياسية مختلفة، السماح بإقامة المستوطنات الأولى في غوش عتصيون، غور الأردن، والخليل.
لم تنجح أي محاولة في مواجهة سرطان الاحتلال. حاول إسحاق رابين عام 1974 الدفع نحو تسوية جزئية مع الأردن في الضفّة الغربية، لكنه اضطر للتراجع تحت ضغط اليمين. أمّا مسار أوسلو الذي قاده، فتوقّف برصاص يجئال عمير في الرابع من تشرين الثاني، ومع فوز بنيامين نتنياهو في انتخابات 1996 جرى الإجهاز عليه بالكامل. لاحقًا حاول أريئيل شارون أن يمسك بزمام المبادرة عبر خطة الانفصال، ويبدو أنّه امتلك العزم لمواصلة الطريق رغم ضغوط المستوطنين، لكن الزمن لم يسعفه. كلٌّ من إيهود باراك وإيهود أولمرت سعى، كلّ بأسلوبه، إلى إنهاء الاحتلال، إلا أنّهما فشلا في نهاية المطاف. ومنذ ذلك الحين، لم ينهض أيّ جهد جدّي لمواجهة المعضلة التي تهدّد إسرائيل بالفشل والانهيار كدولة طبيعية.
قبل الاحتلال، كانت إسرائيل قصة نجاح غير مسبوقة. ففي أقلّ من عشرين عامًا تضاعف عدد سكانها أربع مرات، ونما اقتصادها بمعدّل يقترب من 10% سنويًا. تطوّرت الزراعة بخطوات واسعة، وكان لديها نظام تعليمي متقدّم (الحائزون على نوبل اليوم هم من تخرّجوا من هذا النظام)، وإلى كلّ ذلك أُضيف جيش قويّ وشبكة أمان إستراتيجية جعلت الدولة الصغيرة سادس قوّة نووية في العالم، وفقًا للتقارير المتداولة.
لم يكن كلّ شيء مثاليًا، لكن الساسة كانوا يسعون لحلّ المشكلات لا لخلقها. وعلى عكس الأسطورة الشائعة، فإن الحدود الهشّة في تلك الفترة كانت آمنة نسبيًا. ففي العقد الذي سبق حرب 1967 قُتل أقلّ من 200 جندي ومواطن في أحداث قتالية. أمّا في العقد الذي تلاها، ومع “حدود أكثر أمانًا”، وميزانية أمن مضاعفة، وجيش أقوى بكثير، فقد قُتل أكثر من 4,000. أي أنّ الاحتلال لم يجلب الأمن — بل العكس تمامًا.
قبل عام 1967 كانت إسرائيل تعلن أن السلام هو هدفها الأساسي. أمّا بعد الاحتلال، فقد تبدّلت الأهداف وارتفعت شعارات من نوع “الحدود الآمنة”، و”أرض إسرائيل الكاملة”، و”من البحر إلى النهر”. اليوم، حتى يائير غولان يتجنّب لفظ كلمة “سلام”، فيما تبقى الأحزاب العربية — وربما بات حضورها مهدداً — الصوت الوحيد الذي يطرح بوضوح حلّ الدولتين.
منذ عام 1967، حين صيغت معادلة “الأراضي مقابل السلام” بوصفها طريقًا لحلّ الصراع، دفع الاحتلالُ المتواصل بإسرائيل من موقع دولة ديمقراطية متقدمة تطمح لأن تكون “نورًا للأمم”، إلى موقع دولة منبوذة، الدولة الوحيدة في العالم التي تُبقي شعبًا آخر تحت احتلال عسكري طويل الأمد.
دمار غزّة ومقتل عشرات الآلاف من المدنيين — من شيوخ ونساء وأطفال — أتمّا المهمة، ودفعا بإسرائيل إلى صدارة لائحة الدول المنبوذة. معظم الإسرائيليين لا يفهمون لماذا يحدث لهم هذا، لكن شعوب العالم ترى ما يجري في غزّة وما يقترفه المستوطنون في الضفّة، وردّ الفعل طبيعي. المكانة الدولية لإسرائيل اليوم هي، إلى حدّ كبير، من صُنع يديها. وعلى خلاف كوريا الشمالية أو السودان — كنّا يومًا في موقع آخر — ومع ذلك ما زلنا نتلقى دعمًا سخيًا من الولايات المتحدة ومن دول الاتحاد الأوروبي.

