«أكاد أجزم أنني لم أر الأمور بهذا الوضوح أكثر مني الساعة». هذه الجملة البسيطة، القوية والواضحة، هي جزء من جواب طويل كتبه الراوي المجهول في أقصوصة كتبها غسان كنفاني قبل ستين عامًا، عنوانها «ورقة من غزة». هي عبارة عن رسالة من الراوي لصديقه مصطفى الطالب المقيم في مدينة ساكرامنتو (كاليفورنيا). تحكي عن صديقين تعاهدا على الخروج من «جحيم غزة» في أعقاب النكبة.
يعود الراوي إلى غزة لزيارة عائلته، قبل اللحاق بصديقه في الولايات المتحدة، لكنه يعرج على ابنة أخيه نادية بالمستشفى محملًا بالألعاب والهدايا، وبنطالًا أحمر، لكنها «حين مدت كفها، ورفعت بأصابعها الغطاء الأبيض، كشفت عن ساق مبتورة من أعلى الفخذ، بعد أن ألقت بنفسها فوق اخوتها الصغار تحميهم من القنابل واللهب. كانت نادية تستطيع أن تنجو بنفسها، أن تهرب، أن تنقذ ساقها، لكنها لم تفعل». في تلك اللحظة تنقلب نظرته للعالم ويكتب صرخته في ذيل الرسالة: «لن آتي إليك، بل عد أنت لنا، عد لتتعلم من ساق نادية المبتورة من أعلى الفخذ، ما هي الحياة، وما قيمة الوجود».
هزتني هذه الأقصوصة عندما قرأتها أول مرة مدفوعًا بشغف باكر لكنفاني، وكان ذلك خلال الانتفاضة الثانية مطلع هذا القرن. كانت خاتمتها ملحميةً، يقف فيها المرء على حافة هاوية الوجود، ثم يستعيد توازنه نحو خيار الضرورة، بوصفه «نحن»، لا تلك «الأنا» الفردية الأنانية التي تبحث عن خلاصها. وهزتني بالقوة نفسها عندما أعدت قراءتها منذ أيامٍ، لكن الفارق هو الوعي بعبقرية غسان ورؤيويته، لكأنه كان ينظر في زجاجة المستقبل، والتي تجد جذورها في حدس الفنان وسعة أفق السياسي.
خلال شهر من الإبادة المستمرة، الجارية في غزة، سمعت كثيرًا من أصدقاء ورفاق ومن أناس لا أعرفهم كلمات تشبه أكاد «أجزم أنني لم أر الأمور بهذا الوضوح أكثر مني الساعة». كثيرون قرروا مراجعة كل أفكارهم وطريقة تفكيرهم، وكثيرون ألغوا صداقات راسخة وأسسوا صداقات جديدة، وكثيرون تجاوزوا ذواتهم، ومكاسبهم الشخصية، ومصالحهم الصغيرة، وأعادوا وصل أنفسهم بتصور أكبر للوجود.
نحن إزاء لحظة صحوة كونية غير مسبوقة، ليس فقط في عالمنا العربي، بل في العالم. ليس هينًا ما تفعله هذه الحرب، إنها تُغيرنا على نحو ليس لنا به قبيل. ربما لن تغير كثيرًا في جغرافيا الصراع، ولكنها تُغير النفوس، والنظر نحو نظام الأشياء، ونحو الآخرين. ربما كان ضرورةً أن تندلع هذه الحرب كي نبدأ التفكير، فهذه الفاعلية كانت دائمًا مرتبطةً بصدمات أو استكشافات لا نعرف حتى كيف نعبر عنها لفظيًا: الانفصال، مشهد عنيف، إدراك مفاجئ لرتابة الزمن.
ربما حدث هذا الأمر، في سياق مقلوب، في أعقاب هزيمة 1967. كانت النكسة صدمةً ذات أثار تحويلية جذرية على النفوس. ضاعت فلسطين، وهزمت مصر، وفقدنا الجولان. في المقابل أصبحت الانعزالية القُطرية سياسة رسمية عربيةً، بالضد من هزيمة مشروع الوحدة، فيما توجهت قطاعات شعبية ونخبوية واسعة نحو الإسلاموية بديلًا. لكن الهزيمة، بوصفها صدمةً نفسية، دفعت قطاعًا أخر من الشعوب العربية والنخب نحو تحول جذري في نظرتها للعالم والوجود، ربما كان إدوارد سعيد النموذج الأكثر شهرةً لهذا النوع الأخير.
لكن نموذجًا آخر يمكن أن يضيء لنا هذه البقعة المكللة بالضباب وهو المؤرخ الفلسطيني هشام شرابي. كان شرابي واحدًا من النخبة الفلسطينية الميسورة، التي تمكنت بفضل وضعها الطبقي من تدبر أمرها بعد النكبة، من خلال الهجرة إلى الولايات المتحدة والانخراط في السلك الأكاديمي، ضمن تخصص بعيد عن قضية الوطن المحتل. فقد استقر به الحال، عشرين عامًا، دون أن يلتفت خلفه، حتى جاء حزيران 67، ليعصف بالمثقف الليبرالي إلى غير رجعةٍ. فجأةً عاد التاريخ دفعةً واحدةً، الماضي يفتح أبوابه أمامي.
بين حزيران 1967 وتشرين الأول 2023، غيرت الهزيمة معسكرها. وهذا جوهر ما تفعله هذه الحرب في نفس العربي، أن تطرد الهزيمة المزمنة، التي سكنته، وتدفعه للإدراك بأن التحرير ليس مجرد أمنية بل إمكانية قائمة، لا يفصلنا عنها سوى مسافة الإرادة والعمل. وتُغيرنا كذلك، بأن تسحبنا من حيز الأنا، الفردية الأنانية المنعزلة، إلى أفق النَحنُ، حيث الكل جمعًا موحدًا؛ في مواجهة التجزئة، التي عمّقتها الهزيمة على نحو أوجد مناخًا خصبةً للانعزالية، والتي ندفع ثمنها غاليًا كل صباح.
تحرير الشارع العربي
أسأل رجلًا بسيطًا مازحًا عن جدوى مقاطعته لبعض الشركات العالمية، متماديًا بالقول «هل تعتقد أن امتناعك عن شراء غرض ما، مرة بالشهر، ستجعل هذه الشركة أو غيرها تكف دعمها عن الكيان»، فيجيب، على سجيته، ببساطة أدهشتني: «أقاطع، كي أشعر عندما أذهب إلى سريري أخر النهار أنني لم أخذل تلك الأرواح التي تذهب هدرًا كل يوم في غزة، وهذا شعور يكفيني». خلافًا لكل جولات الصراع السابقة، هناك شيء ما غير مسبوق فعلته هذه الحرب، ربما كان ذلك بسبب الترابط القوي الذي أوجدته وسائل التواصل، حيث أصبحنا نرى المجازر في البثّ المباشر، دون وسائل الميديا ومعلقيها. ونشاهد الانتصارات طازجةً دون ثرثرة الخبراء العسكريين. ونرقب ابتسامة الجرحى تحت الركام في شاشات الموبايل، ونعرف شباب غزة الناشطين في نقل الصورة بالاسم، حتى أصبحوا جزءًا من عائلاتنا، ترج قلوبنا كلما غاب أحدهم يومًا أو أكثر.
أما على الأرض، فقد نجح طوفان الأقصى، منذ لحظته الأولى في تحرير الشارع العربي من قيوده. شوارع مصر التي غابت فيها المظاهرات سنوات عديدة، ازدحمت بالمسيرات، التي وصلت المربع المحرمّ في ميدان التحرير، كاسرةً احتكار السلطوية العسكرية للفضاء العام. وفي البحرين، كسر المتظاهرون الخطوط الحمراء للتظاهر، التي وضعها النظام بعد هزيمة انتفاضة 2011. وفي المغرب الأقصى، خرجت منذ الأيام الأولى مظاهرات ضخمة، معبرةً بقوة عن موقف الشعب المغربي، لا فقط الداعم لفلسطين، بل الرافض ضمنيًا لتطبيع النظام المغربي مع «إسرائيل». وفي بقية الدول العربية خرجت مظاهرات، غير مسبوقة من حيث العدد، وكذلك من حيث الوحدة، ذلك أنها ضمت فرقاء سياسيين انشغلوا خلال العشر سنوات الماضية، بصراعات سياسية وإيديولوجية محلية جذرية، كما هو الحال في تونس، لكن الحدث الفلسطيني كسر كل تلك الاستقطابات الثانوية.
النفوس التي تغيّرت، والهبة الشعبية التي حررت الشوارع المحتكرة من السلطويات، تكشف عن هزيمة مديدة للمشروع الانعزالي، المضاد للوحدة. هذا المشروع الذي ترسّخ بعد هزيمة 1967، بدفع من أحزاب ونخب ذات جذور انعزالية، وكذلك بالاستفادة من هزيمة مشروع عبد الناصر الوحدوي. شكل انكماش مصر، إلى سردية «وطنية فرعونية» ضيقة، ضربةً موجعة لأحلام الوحدة ومشاريعها. وبدأت منذ ذلك الوقت تظهر شعارات من نوع «تونس أولًا»، «مصر أولًا» ومثلها في بقية أقطار الوطن العربي. وفي مناخ الانعزالية هذا، ظهرت سرديات جديدة للأمن القومي للدول مؤسسة على المصلحة القُطرية الضيقة، والتي أفضت في النهاية إلى بروز نماذج التطبيع. ذلك أن أي تطبيع يحتاج أولًا إلى عزل مصلحة الدولة عن فضائها العربي الأكبر. ما تفعله هذه الحرب اليوم، هو تفكيك كل هذه السردية، رغم الممانعة الرسمية العربية في التشبث بها. فصورة السياج الذي تحطم فجر السابع من أكتوبر، بين غزة وفلسطين المحتلة، مثقلة، ليس فقط بدلالة الالتحام بالوطن المحتل، بل أيضًا بإعادة ربط أوصال الرقعة العربية المجزأة. ذلك أن مجرد قبول إمكانية التحرير في الذهن، هو قبول ضمني بإمكانية الوحدة. وهذا التلازمّ هو الفكرة البسيطة التي تأسست عليها حركة التحرير الفلسطينية في ستينيات القرن الماضي، ثم تنكرت لها.
إعادة تشكيل التضامن الأممي
في الجانب الأخر من المشهد، تبرز صورة جديدة للتضامن الأممي والعالمي مع فلسطين، حيث شهدت عواصم ومدن أوروبية وأمريكية وآسيوية مظاهرات غير مسبوقة عددًا ونوعًا للتضامن مع الشعب الفلسطيني وتنديدًا بالمجازر الإسرائيلية. على عكس المواقف الرسمية للأنظمة الغربية المساندة للكيان.
بعد الخروج من لحظة السابع من أكتوبر، التي حاولت الميديا الغربية تعليقها وعزلها عن سياقها لتعبئة الرأي العام ضد المقاومة، اكتشفت قطاعات واسعة من مجتمعات هذه الدول، بفضل وسائل الإعلام البديلة وشبكات التواصل، وبفضل براعة الشباب الناشط داخل قطاع غزة في نقل صورة المجزرة الممتدة، زيف السردية الإسرائيلية. لنشهد منذ لحظة قصف المستشفى المعمداني، انعطافة جذرية في تعاطي الناس العاديين مع الحدث. تجلى ذلك من خلال عشرات المقاطع على وسائل التواصل الاجتماعي، المؤيدة لغزة وأهلها، وعشرات المقاطع التي تطرح أسئلة تبدو بسيطة وساذجةً حول تساوي قيمة الأرواح وحول صفاقة الانحياز الغربي للجانب الإسرائيلي. وعشرات البرامج على اليوتيوب، يديرها شباب وشابات من أوروبا وأمريكا، عادت إلى جذور القضية، للحديث عن النكبة وما بعدها. واللافت أن الدافع المشترك بين هؤلاء ليس ايدولوجيًا بل وازع أخلاقي فطري، يظهر جليًا في بكاء البعض وعلى القسمات والملامح.
منذ بروز الملامح الأولى لحركة التضامن الأممي مع فلسطين، منتصف ستينيات القرن الماضي، كان هذا التضامن قائمًا أساسًا على الإيديولوجيا. فمع تشكل حركة التحرر الوطني الفلسطيني في مناخ كان يشهد صعودًا لحركات نزع الاستعمار واليسار الجديد، مدفوعًا بالثورة الثقافية في الصين وحرب فيتنام، شكل اليسار الجديد في أوروبا وأمريكا واليابان المكون الأساسي لحركة التضامن الأممي مع الشعب الفلسطيني. وقد وصلت درجة التضامن إلى حد الانخراط في الكفاح المسلح، من خلال انضمام عناصر أو تنظيمات كاملة إلى الثورة الفلسطينية، من اليابان والسويد وفنزويلا والكرد والأرمن، لاسيما في صفوف الجبهتين الديمقراطية والشعبية. إلى جانب مؤسسات وروابط يسارية عالمية كانت تدعم القضية الفلسطينية من خلال العمل الشعبي والمدني بالتظاهر والمقاطعة والكتابة والنشر.
لكن هذا الشكل من التضامن الأممي الإيديولوجي، وعلى شجاعته وما جلب لأصحابه من أثمان باهظة، بقي أقليًا ونخبويًا، وغير مؤثر في بيئته الغربية تحديدًا. بل على العكس، فقد استغلته الأجهزة الأمنية الغربية، كدليل على إضفاء الصفة الإرهابية على المقاومة الفلسطينية، ووظفته الحركة الصهيونية لتعبئة المجتمعات الغربية ضد فلسطين. ثم ما لبث هذا النوع من التضامن أن تراجع، بتراجع الثورة الفلسطينية وصولًا إلى إنهائها بتوقيع اتفاق أوسلو. لكن بعد الانتفاضة الفلسطينية الثانية بدأت تتشكل حركة عالمية متنامية ومتطورة، دفعتها بقوة الحركة المضادة للحرب على العراق، ويبدو أن ثمار عملها قد ظهرت بقوة هذه الأيام. لذلك فإن إعادة ترسيخ هذا التضامن على ركائز غير إيديولوجية، وبدوافع أخلاقية أكثر ثباتًا، ربما سيكون من ثمار هذه الحربّ المستدامة والمؤثرة مستقبلًا.
تأكيد «الجنوب العالمي»
الملمح الثالث، والمهم، الذي تكشفه هذه الحرب، فيما يتعلق بنظرتنا لأنفسنا وللعالم من حولنا، هو بروز أوضح لخطوط الصدع بين الغرب وبقية العالم، وتأكيد أكثر وضوحًا لفكرة «الجنوب العالمي»، التي هي ترجمة للموقف الغربي الاختزالي والمتعالي تجاه مليارات البشر الذين يعيشون جنوب العالم. هذا الجنوب الذي يصفه ألفريد لوبيز بأنه لا يعد مكانًا، أو حتى اصطفافًا بين الأماكن، بقدر ما هو حالة. وربما اتجاه آخر أصبح أولًا واعيًا أكثر فأكثر بنفاق الرواية الغربية للعالم، والتي أرادت العولمة ترسيخها منذ نهاية الحرب الباردة ضمن باقة نهاية التاريخ: الحضارة الغربية للهيمنة، النيوليبرالية للاستغلال وفائض القوة العسكرية للإخضاع. وثانيًا واعيًا بقوته الذاتية في مجابهة هذه الهيمنة. ربما كانت حرب أوكرانيا بداية انكشاف خطوط الصدع، لكن حرب فلسطين اليوم، كشفت بوضوح أكبر عن هذا التقسيم الجديد: الغرب في مواجهة بقية العالم.
تكشف خارطة المواقف والتحيزات، بوضوح عن تركز الانحياز لـ«إسرائيل» في الغرب، فيما صدرت مواقف في بقية العالم، إما منحازة للجانب الفلسطيني أو داعية في الحد الأدنى لوقف الحرب. باستثناء موقف الهند المنحاز لـ«إسرائيل» بدوافع داخلية تتعلق بصراعها في كشمير مع جماعات إسلامية، تحاول وضعها على مسطرة واحدة مع المقاومة الفلسطينية. لكن موقف الشعب الهندي، كان واضحًا أنه في الاتجاه المعاكس، من خلال المظاهرات المليونية الداعمة لفلسطين. أما في إفريقيا، ورغم النشاط الدبلوماسي الإسرائيلي المكثف في القارة منذ عقدين، والتراجع الكبير للحضور العربي والفلسطيني، فقد كشفت الحرب عن فشل إسرائيلي في كسب مواقف الدول الإفريقية، فضلًا عن تضامن شعبيّ إفريقيّ واضح مع الشعب الفلسطيني. فمنذ عام 2017، صوتت غالبية الدول الإفريقية ضد قرار الولايات المتحدة بفتح سفارة في القدس، خلال اجتماع طارئ للأمم المتحدة. كما هزمت سياسة نتنياهو في إفريقيا بعد فشله في الحصول على وضع دولة مراقب هناك بفضل معارضة كل من جنوب إفريقيا والجزائر، لدرجة أنه في شباط 2023، طردت دبلوماسية إسرائيلية من جلسة قمة الاتحاد الإفريقي.
إن ما تعيد هذه الحرب ترسيخه، وربما تعيد تأسيسه على أسس أكثر قوة، هو التأكيد على وحدة قضايا الجنوب العالمي في مواجهة الهيمنة الغربية، وتاليًا نقض وهم نهاية التاريخ وعقيدته العولمية. لأن هذا الانقسام بين جنوب العالم وشماله ليس مجرد فجوة التنمية، إنه أثر علاقة الهيمنة التي حدثت على مدى طويل من الزمن. لذلك فإن نظر العربي إلى نفسه، خارج قيود الانعزالية، يجب أن يمتد بعيدًا نحو التلاحم مع قضايا من يشبهونه من أمم الجنوب، كشرط ضروري للتحرير والتنمية.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر المسار الاخباري