مقالات

ترامب في الخليج: عندما تُعرض غزة في مزاد المليارات

المسار الاخباري….

كتب …اسماعيل الريماوي:

قالها دون مواربة، وعلى أرضٍ عربية، وأمام مضيفيه الذين فرشوا له السجاد الأحمر وفتحوا له خزائن النفط والتبعية، قال دونالد ترامب إنه يريد امتلاك غزة، وكأنها قطعة أرض سائبة يمكن أن تُعرض في سوق الصفقات، وكأن أهلها مجرد تفاصيل زائدة في دفتر حساباته التجارية والسياسية، لم يكن ذلك التصريح زلة لسان ولا حماقة عابرة من رئيس شعبوي، بل كان تلخيصًا صارخًا للعقيدة الأمريكية التي ترى في فلسطين عمومًا، وغزة تحديدًا، ملفًا أمنيًا واقتصاديًا يمكن الاستثمار فيه وتحويله إلى فرصة نفوذ وثروة، ولو على حساب الدم الفلسطيني .

 

ترامب، الذي لم يتردد في إعلان القدس عاصمة للاحتلال، ولم يرف له جفن وهو يبارك صفقة القرن ويتباهى بنقل السفارة الأمريكية إلى مدينة الأنبياء، عاد ليقول بوضوح إنه يرى غزة جزءاً من صفقة كبرى، صفقة لا تقف عند حدود التطبيع، بل تتجاوزها إلى مرحلة البيع العلني للأرض والقرار والسيادة، وليس من المصادفة أن يُطلق ترامب هذه التصريحات من قلب الخليج العربي، ومن مجالس حكامه الذين لم يكتفوا بالصمت، بل بالغوا في تقديم فروض الولاء له، فمنحوه مليارات الدولارات تحت مسميات صفقات سلاح واستثمارات وهمية، وفتحوا له الأبواب ليحوّل المنطقة إلى مسرح صفقات تخدم تل أبيب قبل واشنطن .

في نظر ترامب، غزة ليست سوى موقع استراتيجي يمكن تطويعه لخدمة أمن إسرائيل ومصالح أمريكا، إن استطاعوا خنقها وترويضها أو تطويع أهلها عبر المال والحصار والجوع، وإن فشلوا، فإنهم لن يترددوا في مسحها من الخريطة وتحويلها إلى ساحة خراب دائم، وهذا ما تكشفه بوضوح سياسات الدعم الأمريكي المفتوح للعدوان الإسرائيلي على غزة، بما في ذلك القصف المتواصل، والتجويع، وقطع المساعدات الإنسانية، بل ومحاولات التهجير والترانسفير التي أصبحت مشروعًا معلنًا بغطاء أمريكي وتمويل خليجي .

غزة التي يريد ترامب امتلاكها اليوم، هي ذاتها التي استعصت على كل مشاريع الإخضاع ورفضت أن تتحول إلى سلعة في بازار التطبيع، ولذلك فإن هذا الحقد الأمريكي المتراكم ليس موجّهًا ضد الأرض فقط، بل ضد النموذج المقاوم، وضد الروح التي لم تنكسر برغم الجوع والدمار، ترامب حين قال “أريد امتلاك غزة”، كان يعني تصفيتها، تمامًا كما أراد تصفية قضية فلسطين كلها، وتحويلها إلى رقم في محفظة مستثمر، أو بند في اتفاق أمني مع إسرائيل، وكل ذلك برعاية عربية رسمية لم تعد تخجل من الانحياز الكامل للمحتل .

في هذا المشهد، يتحول ترامب من مجرد رئيس سابق إلى رمز لمرحلة خطيرة اختلطت فيها الخيانة بالمال، والتبعية بالوقاحة، وتحوّلت فيها بعض العواصم العربية إلى بوابات عبور للمشروع الصهيوني، لا إلى حواضر دفاع عن القدس وغزة، وبقدر ما تكشف هذه التصريحات من بشاعة السياسات الأمريكية، فإنها أيضًا تفضح من يستقبلونها بالتصفيق لا بالرفض، ومن يبيعون غزة وهم يظنون أنهم يشترون الأمن لأنفسهم، فإذا بهم يشترون الذل لأمتهم .

لكن غزة ليست للبيع، ولن تكون امتيازًا أمريكيًا، ولا جائزة ترضية لإسرائيل، لن تنكسر تحت القصف، ولا تحت الحصار، لأنها ببساطة ليست مجرد قطعة أرض، بل عقيدة مقاومة، وحكاية شعب لا يعرف الخضوع، غزة التي أراد ترامب أن يمتلكها ستبقى كابوسًا في وجه كل محتل، وصفعة في وجه كل متآمر، ووصمة عار في جبين كل من ساهم أو صمت أو موّل مشروع الإبادة، لن تموت غزة، لأن فيها من يدفنون أبناءهم ويعودون إلى الأنفاق، فيها من يحرسون الليل بالجوع ويقاتلون بالكرامة، فيها من يرفعون الأذان على ركام المساجد، ويولدون من تحت الأنقاض ليواصلوا الحكاية، وحين تسكت كل الأصوات، سيبقى صوت غزة عاليًا، يقول لا لمن أراد امتلاكها على جماجم نسائها وأطفالها.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر شبكة المسار الاخباري