
المسار …
كتب اسماعيل جمعه الريماوي: منذ اللحظة الأولى لانطلاق الحرب الإسرائيلية الشاملة على قطاع غزة بعد السابع من أكتوبر اتخذت الإدارة الأميركية موقفًا لا يحتمل التأويل معلنة انحيازها الكامل وغير المشروط لإسرائيل سياسيا وعسكريا ودبلوماسيا في مشهد يعكس ليس فقط تماهي واشنطن مع المشروع الصهيوني بل انخراطها المباشر في محاولة إعادة تشكيل المشهد الفلسطيني وفق شروط الاحتلال وميزان القوة الذي تسعى إلى ترسيخه بالقوة والإبادة والابتزاز الدولي ، لقد جاءت الحاملة الأميركية إلى البحر المتوسط قبل أن تكتمل الضربة الجوية الأولى على غزة وبدأت رسائل الدعم العسكري تتدفق تباعا في شكل صفقات تسليح عاجلة ومنح طارئة وتسهيلات غير مسبوقة لتزويد آلة الحرب الإسرائيلية بكل ما يلزم لإطالة أمد المعركة وحماية تل أبيب من أي تهديدات إقليمية محتملة ، في المقابل استخدمت واشنطن كل أدوات الضغط في مجلس الأمن وساحات القرار الدولي لتعطيل أي مبادرة تسعى إلى وقف إطلاق النار أو حتى التهدئة المؤقتة كما فعلت حين أفشلت ستة مشاريع قرارات كانت تهدف إلى إنهاء المجازر وإدخال المساعدات الإنسانية.
الإدارة الأميركية لم تكتف بالدعم العسكري والسياسي بل لعبت دورا مركزيا في صياغة الرواية الإعلامية والدبلوماسية للعدوان من خلال الإصرار على الحديث عن حق إسرائيل في الدفاع عن النفس دون أي إشارة إلى الجرائم المرتكبة بحق المدنيين والبنية التحتية في غزة التي حوّلت القطاع إلى أرض محروقة وبيئة غير صالحة للحياة في أكبر عملية تدمير ممنهج ومدروس تشهدها المنطقة منذ عقود ، ولم يكن دعم واشنطن لإسرائيل مجرد تغطية سياسية بل مشاركة عملية في فرض شروط المعركة ونتائجها ، حيث دفعت الإدارة الأميركية بمبادرات متتالية تحت مسميات وقف مؤقت لإطلاق النار أو تفاهمات إنسانية لكنها جميعًا كانت تهدف إلى حماية إسرائيل من الهزيمة لا إلى وقف الحرب أو إنقاذ المدنيين ، ومن ضمن هذه المبادرات جاء مقترح ويتكوف الأخير الذي عكس بأوضح صورة الانحياز الكامل للموقف الإسرائيلي إذ لم يتضمن أي وقف حقيقي ودائم للحرب ولا رفع للحصار عن غزة ولا ضمانات لحماية السكان بل مجرد آلية لتبادل الأسرى فقط بينما اشترط نزع سلاح المقاومة كمقدمة لأي إعادة إعمار وربط مصير القطاع بمنظومة أمنية إسرائيلية يجري تسويقها كحل مستقبلي تحت غطاء دولي وأممي .
كل ذلك يكشف أن الدور الأميركي لم يعد مجرد غطاء للعدوان بل شريك فعلي في تنفيذ مشروع الإبادة الجماعية والتجويع الجماعي الذي يستهدف سكان غزة بهدف تفريغ الأرض وتفكيك المجتمع وتحطيم أي إمكانية لقيام كيان فلسطيني مستقل أو مقاوم على حدود دولة الاحتلال ، فالمساعدات و الآلية الجديدة لتوزيعها التي اعلنت عنها واشنطن لغزة لا تصل إلا شحيحة و ملطخة بالدم و مصيدة للموت و إهانة و ذل للمدنيين ومرهونة بالموافقة الإسرائيلية ، والفيتوهات الأميركية في مجلس الأمن لا تُستخدم إلا لحماية الجريمة وعرقلة القانون الدولي ، في حين يجري استخدام سلاح العقوبات والتحقيقات فقط عندما يتعلق الأمر بمحاولة مساءلة إسرائيل عن جرائمها .
إن ما نشهده اليوم لم يعد مجرد انحياز أميركي تقليدي بل تحولا بنيويا في طبيعة الدور الأميركي الذي بات يتعامل مع إسرائيل كخط دفاع أول عن النظام الدولي الذي تقوده واشنطن ، ويرى في تصفية القضية الفلسطينية مقدمة ضرورية لترتيب الإقليم وفق المصالح الأميركية الإسرائيلية المشتركة ، ولذلك فإن كل ما يُطرح من مبادرات أميركية لا يعدو كونه محاولات لإعادة هندسة الهزيمة وتثبيت نتائج العدوان بالقوة وتحت مسميات إنسانية مخادعة ، فيما الحقيقة أن غزة تُباد بسلاح أميركي وتُحاصر بدبلوماسية أميركية وتُساوم على حياتها بورقة الغذاء والماء والدواء التي تتحكم بها واشنطن وتمنحها لإسرائيل كي تواصل حربها من دون أي تكلفة سياسية أو قانونية .
وفي ضوء هذا المشهد المأساوي الذي يتكشف فيه الوجه الحقيقي للدور الأميركي في الحرب على غزة لم تعد واشنطن مجرد طرف منحاز بل أصبحت شريكاً مباشراً في الجريمة التي تُرتكب بحق أكثر من مليوني إنسان يُذبحون على مرأى من العالم بلا ماء ولا غذاء ولا مأوى ، بينما تواصل الإدارة الأميركية تزويد القاتل بالأدوات والدعم والحصانة ، لقد سقط قناع الوسيط وانكشفت طبيعة الوظيفة الأميركية التي تقوم على تثبيت الهيمنة الإسرائيلية وفرض منطق القوة على حساب العدالة والحقوق والكرامة الفلسطينية ، ولم يعد مقبولاً التعاطي مع المبادرات الأميركية بوصفها مدخلاً للحلول أو نهاية للكارثة بل ينبغي التعامل معها كجزء من استراتيجية إطالة أمد الإبادة وتحويل غزة إلى ورقة مساومة ، لا إلى جرح مفتوح ينزف على طاولة الضمير الإنساني الذي ما زال يغيب بفعل الفيتو والدولار والسلاح الأميركي .
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر المسار
وكالة وطن للأنباء