في الذكرى الثلاثين لرحيله.. أرملة توفيق زيّاد تستعيد سيرة حياتها مع القيادي والشاعر الفلسطيني

تحلّ غداً الذكرى الثلاثون لرحيل القيادي والشاعر الفلسطيني توفيق زيّاد، الذي رحل في حادثة سير، وهو عائد إلى القدس من أريحا بعد لقاء مع الراحل ياسر عرفات.

في هذه المناسبة زارت  بيته المتواضع في مدينة الناصرة، داخل أراضي 48، فحدثتنا زوجته المناضلة، رفيقة دربه نائلة صباغ- زيّاد عنه وعنها، وعن رحلتهما المشتركة.

زيّاد، الذي رحل في الخامس من تموز عام 1994، حمل هو الآخر، كإميل حبيبي، بطيختين معاً بيديه، وعامَ في بحري السياسة والثقافة في آن واحد، وقد شغل عدة وظائف اعتبرتها بعض الجهات غير منسجمة، فهو شاعر، باحث في التراث الفلسطيني، رئيس بلدية، ونائب في الكنيست عن الحزب الشيوعي الإسرائيلي.

تزدان جدران صالون بيت المناضل الراحل توفيق زيّاد بعشرات الصور التاريخية، لكن واحدة تستوقف الزائر، صورة تجمعه مع الراحل ياسر عرفات العائد للوطن عام 1994، صورة أخيرة وثّقت الحدث الأبرز في يومه الأخير، قبل أن يلقى حتفه في حادثة سير بين أريحا والقدس.

أرملة توفيق زيّاد: كنت أقرأ القصائد في المجلات، وكلما أعجبتني قصيدة كتبتُها بخط يدي، ولاحقاً تبيّنَ أن كل هذه القصائد التي نالت إعجابي كانت لتوفيق

في الصورة يتجلى لقاء المحبة والتقدير فيمسك توفيق زيّاد خدّي أبو عمّار، الذي يمدّ هو الآخر ذراعيه حاضناً الشاعر الفلسطيني، في إشارة لدفء لقاء الإخوة.

اللافت أكثر ما كتب على الصورة؛ أربع كلمات، عبارة عن وصية مشتركة اختارت أرملة زيّاد، نائلة زيّاد كتابتها: “ديروا بالكو على بعض”. وتحت هذه الصورة إطار ذهبي عبارة عن هدية قدّمها أحد أصدقاء العائلة من حيفا عام 1987، إطار يحتضن عبارتين تجعلانه هو الآخر مشحوناً بدلالة رمزية تركز على مسيرة فلسطينيي الداخل:

يا شعبي يا عودَ الندِّ

يا أغلى من روحي عندي..

إنّا باقون على العهدِ

مسيرة البقاء فوق تراب الوطن، حتى بثمن حمل جواز السفر الإسرائيلي، الذي صار مصدر تشكيك بِهم، وإزعاج لهم من قبل الإخوة والأشقاء طيلة عقود.

أناديكم

بين رفوف مكتبة توفيق زيّاد العامرة، تنتشر صور وإطارات كثيرة تحمل صور الشاعر الفلسطيني الوطني والشيوعي، الذي انتمى لحزب دعا للتقسيم من قبل النكبة، ويؤمن بتسوية الدولتين.

واحدة من هذه المعلقات التي تروي مسيرة زيّاد وسيرة شعبه تحتضن مقطعاً من أبرز قصائده:

أناديكم

أشّد على أياديكم

وأبوس الأرضَ تحت نِعالكم

وأقول: أفديكم

وأهديكم ضيا عيني، ودفء القلب أعطيكم

فمأساتي التي أحيا

نصيبي من مآسيكم

ومن المعلّقات الكثيرة التي ترمز لوطنية زيّاد واحدة تحمل صورته في واحدة من مهرجانات الخطابة التي طالما أشعلها حضوره الكريزماتي، وبابتسامته الساخرة الغاضبة، وهو على صهوة جواد اللغة الشعرية، ومن فوقه كتبت كلمات بنات قريحته الشعرية المكتوبة بالسهل الممتنع:

بأسناني، سأحمي كلّ شبر من ثرى وطني،

بأسناني

ولن أرضى بديلاً عنه لو علّقت من شريان شرياني…

وتعكس معلقّة أخرى ميول زيّاد الإنسانية الأممية، وهي تحمل مقطعاً شعرياً من نتاجاته:

وأعطي نصف عمري..

للذي يجعل طفلاً باكياً يضحك…

وأعطي نصفه الثاني لأحمي زهرة خضراء أن تهلك….

أنا بشرية في حجم إنسان

فهل أرتاح والدم الزكي يسفك

أغنّي للحياة،

فللحياة وهبتُ كل قصائدي

وقصائدي هي كل ما أملك!

المكتبة العامرة

كما هي المعلّقات، فإن كتب مكتبة زيّاد العامرة تشي بتشكيلة توجهاته، ودوائر انتمائه، وهوياته التي تبدو متناقضة للوهلة الأولى؛ الهوية القومية والوطنية، العربية والفلسطينية، مقابل الهوية الطبقية، الشيوعية والهوية الأممية:

لينين: “تقرير عن السلام”، عيسى لوباني: “رسالة في العشق والعشّاق، “نجيب محفوظ: خمارة القط الأسود”، أحمد مطر: “لافتات”، عبد الرحيم محمود: “روحي على راحتي”، إميل حبيبي: “الأعمال الكاملة”، وعلي الخليلي: “ما زال الحلم محاولة خطرة”، وغيرها الكثير من كتب الثقافة والسياسة والفلسفة التي ساهمت في صياغة شخصيته على ما يبدو.

رفيقة درب

مقابل المكتبة جلسنا والسيدة صباغ- زيّاد، التي يدعوها العامة أم الأمين، سيدة عصامية لها استقلاليتها، ولدت عام 1946 لوالدين ينتميان لعصبة التحرر الوطني، ومنذ نشأتها شاركت أهلها في فعاليات سياسية واجتماعية.

من هو توفيق زيّاد بالنسبة لك؟ وكيف تفضّلين أن ندعوك؟

زوجي.. أهم ألقابه الكثيرة بالنسبة لي. بالنسبة للتسمية، فالناس يدعونني أم فلان وأخت فلان.. هكذا هو الحال لدى المرأة العربية. أفضّل تسميتي باسمي نائلة، ولكنني أقبل “أم الأمين” خاصة أن تقاليدنا تعني الاحترام بمناداة السيدة باسم ابنها البكر. ليس مهماً اللقب عندي.

ما الذي يخفف الفقدان والغياب؟ ثلاثون عاماً كافية لتخفيف الاشتياق أم العكس؟

الحياة مستمرة، والألم باق، ولكن الأولاد والأحفاد والعلاقات الاجتماعية، علاوة على مؤسسة توفيق زيّاد التي نعمل من خلالها لحفظ مسيرة وتاريخ هذا الرجل، الذي أعطى شعبه أكثر من أسرته حفاظاً على حقوقهم وحمايتهم. الفقدان صعب لكن العمل لصيانة هذا الموروث يشعرني بالراحة.

يأتيك في المنام؟

أنا من الذين لا يأتيهم المنام إلا ما ندر.

أشرت للأولاد والأحفاد فهل تشركينا بالتعرف عليهم؟

عبور، وهيبة، أمين وفارس. أسمينا ابننا البكر أمين توفيق تيمّناً بجدّه وهو مهندس كمبيوتر.. ولم يدخل أحد على خط الحروف والثقافة، لكن أمين ووهيبة لديهما رغبة بالمطالعة، ويمتلكان ملكة الكتابة بلغة حلوة. وهيبة مديرة مؤسسة توفيق زيّاد للثقافة، وفارس محام وهو أقل اهتماما بالأدب.

وأنت تشاركينها في إدارة مؤسسة توفيق زيّاد اليوم؟

تعافيت من المرض، إذ كادت الكورونا تأخذني حيث مكثت ستة شهور داخل المشفى، ونشكر الله. علاوة على التطوع لخدمة جمعية حفظ تراث زيّاد، أساعد وهيبة، وهي مديرة الجمعية من أجل تطوير المؤسسة. كانت تسمى جمعية، واليوم مؤسسة توفيق زيّاد للثقافة والفنون، وهي منشغلة بفعاليات ثقافية حالية ومستقبلية. عبور مقيمة خارج البلاد، وهي اليوم مرتاحة بعدما دفعت ثمناً باهظاً بعد مهاجمة بيتنا، عام 1990، حيث تضررت عينها. وقع ذلك يوم الاحتجاجات في الناصرة على مذبحة ارتكبها إرهابي يهودي، عامي بوبر، في مدينة ريشون ليتسون (عيون قارة)، حيث داهمت الشرطة الإسرائيلية بيتنا، وأصيبت عبور في عينها.

تتذكرين ذاك اليوم؟

وقتها كنت في الشارع. عندما عدت من المظاهرة داهمتنا قوة شرطة إسرائيلية، ورغبوا باعتقالي بتهمة تحريض الأولاد لإلقاء الحجارة. اعتقلوني في ذاك اليوم، وأطلقوا سراحي بعد تحقيق استفزازي، وتهديد ووعيد. ومن طرفي هدّدتُهم واستفزَزْتُهم أنا أيضاً، وقلت إنني سأحرّض كل النساء الفلسطينيات داخل السجن.

عندما عدت للبيت أبلغوني أن ابنتي عبور في المستشفى، بعدما أطلق شرطي إسرائيلي رصاصة عبر نافذة البيت نحوها، فتحطّم الزجاج في وجهها، وأصيبت بيدها وعينها، وللأسف بعد كل المعاناة نجحنا باستعادة عافيتها لكن عينها بقيت متضررة.

ولماذا أسميتموهما عبور؟

أسماها توفيق عبور لولادتها عام 1973، ووقتها كنا مقيمين في براغ، وقد كتب توفيق قصيدة “العبور الكبير”، ونشرتْها مجلة الحزب الشيوعي العراقي. بعد عام، عدنا، ونشرتْها صحيفة “الاتحاد” في حيفا، فقامت قيامة إسرائيل في الكنيست، ودعوات لإزالة حصانته لأنه يؤيد الجيش المصري في الحرب والعبور. وقتها ردّ زيّاد عليهم بالقول: “طز عليكم”، ولما سألوه عن معنى الكلمة قال ساخراً مستخفاً بهم : “طز يعني ملح بالتركية”.

أرملة زيّاد: كتب توفيق بعض قصائد الغزل، لكنه لم يكتب يوماً قصيدة غزل خاصة بي، بيد أنه كان رومانسياً محباً رقيقاً في تعامله معي كزوج، وقامت شراكتنا الحلوة على الاحترام المتبادل

توفيق زيّاد معروف للشباب العربي والفلسطيني والعالمي اليوم؟

للأسف قليل. المدارس العربية تحرم طلابها العرب من تعلّم توفيق وسميح ومحمود وإميل وغيرهم. الجيل الجديد اليوم لا يجد من يعمل على تعبئته وتثقيفه، عدا دوائر شبابية تابعة للحزب الشيوعي. وظاهرة العزوف عن القراءة في أيامنا تنعكس سلباً على الموضوع. وقتها كانت الجماهير تعرف جيداً توفيق زيّاد، ولكن الإعلام لعب دوراً جيداً في ذلك، بعكس اليوم.

ماذا مع الحزب الشيوعي الإسرائيلي، ألا يسعى لتخليده ونشر نتاجاته؟

هذا للأسف يوجعني. جيل اليوم لا يعرف كفاية عن مسيرته وعن مسيرتنا الجماعية، وهو حزب عريق، وكلما سألت مسؤولاً في الحزب يقول إن الشباب لا يرغبون بالقراءة، لكن هذا لا يقنعني، فهناك وسائل كثيرة لإطلاع شبابنا على تاريخنا، وعلى مناضلينا، وعلى شعرائنا، ومجمل مسيرتنا ودورنا… يكتفي بعض من القيادة بالقول “هنا باقون”، فيما هناك قادة آخرون يعملون ولا يكتفون بالقول، رغم حاجتنا العظيمة للحفاظ على السردية الفلسطينية.

ملايين الفلسطينيين، ويأتي كاتب يهودي (الدكتور تامير سوريك) ليكتب، قبل عام، سيرة توفيق زيّاد، بالعبرية، كتاب “المتفائل”، ماذا يقول ذلك؟

لاحقاً ترجم الكتاب للعربية. يؤلمني أن كل هذا الكم من المثقفين الفلسطينيين والعرب ولم يبادر أحدهم لتأليف دراسة عن توفيق زيّاد، حتى جاء تامير وكتب “المتفائل”، بعد سنوات من البحث في البلاد والخارج.

هل يعطيه حقه في الكتاب؟

نعم، لحد بعيد جداً. الكتاب قيّم، ويعطيه حقه، والعنوان لافت لأنه يدلّل على روح توفيق المتفائلة، ولا علاقة له بقصة “المتشائل” لإميل حبيبي. توفيق طالما كان متفائلاً، وهذا ما استنتَجه الباحث سوريك، فعبّرَ عن ذلك بعنوان الكتاب.

السيرة شملت الأمور الشخصية، مثل قصة الزواج المختلط، وكيف تمت؟

طبعاً. نشأت في بيت كادح شيوعي يهتم بالثقافة، وكنت أقرأ القصائد في المجلات، وكلما أعجبتني قصيدة كتبتها بخط يدي، ولاحقاً تبيّنَ أن كل هذه القصائد التي نالت إعجابي كانت لتوفيق. ربما لأن النفس الوطني والأممي أعجبني.

أعجبتِ بالمكتوب أم بالكاتب؟

لا، في البدايات كان المكتوب، شعره شدّني أكثر لولادتي في بيت مسيّس، ولاحقاً تعارفنا ثم “غمزت الصنارة”، وتزوّجنا عام 1966.

ولم تصطدما بمعارضة، رغم زواجكما المختلط؟

والدي يوسف صباغ، ووالدتي لولو خوري صباغ، وهما كادحان أمميّان ناضلا ضمن عصبة التحرر الوطني خلال فترة الاستعمار البريطاني، وبعد النكبة التحقا بالحزب الشيوعي الإسرائيلي. جدتي إيميليا أم والدي من كوبا الأصل، ففي الفترة العثمانية سافر لهافانا، وأحبها، وتزوّجا.

والدي عاش طفولته هناك، وكان يجيد اللغة الإسبانية، وعندما كان يفضّل أن لا يفهم مجالسوه ما يريده كان يتحدّث مع جدتي بالإسبانية. هنا في الناصرة تعلمتْ جدتي قص الشعر والحياكة والتمريض، وبعض الناس يقولون إن هناك شبهاً بيني وبينها. وكانت نهايتها مأساوية، فقد سافرتْ للأردن كي تسافر لكوبا ولقاء أهلها، لكنها مرضت وماتت في عمان.

لم نصطدم بمعارضة لزواجي كفلسطينية مسيحية من فلسطيني مسلم، ورغم أن والد توفيق، أمين زيّاد، كان متديّناً ورعاً فقد وافقَ على الفور، بعدما سأله إن كان أهلي يوافقون على زواجه مني. حماتي نزهة كانت سيدة محبة ولطيفة، وعمي، والد توفيق، كان محقاً كحدّ السيف. وطالما كان توفيق يقول: تعلّمت الطيبة والدماثة من والدتي، ومن أبي أخذت القوة والشجاعة، وفعلاً هذا صحيح، وعلاقتي بهم كانت طيبة، وقد شاركناهم الإقامة داخل بيتهما خمس سنوات أمضيناها بحب واحترام.

علاوة على وفرة قصائده السياسية الوطنية كَتبَ زيّاد بعض قصائد الغزل، فهل خصّك بواحدة منها؟

كتب توفيق بعض قصائد الغزل، لكنه لم يكتب يوماً قصيدة غزل خاصة بي، بيد أنه كان رومانسياً محباً رقيقاً في تعامله معي كزوج، وقامت شراكتنا الحلوة على الاحترام المتبادل.

كان توفيق متواضعاً، ورغب مغادرة السياسة، والتفرّغ للأدب، لكن الحظ لم يحالفه فغرق في العمل السياسي، ولكنه كان يلتقط ما تيسّر من وقت ليحفظ موروثاً ثقافياً شعبياً من أفواه المسنّين، وفي كتابة الأدب والثقافة، ووضع توفيق خمسة دواوين، والأخير بعد رحيله تحت عنوان: “أنا من هذه المدينة”. وهناك كتاب “أسرار في الساحة الحمراء”، كتبه عام 1972، بعد عودته من الاتحاد السوفياتي، وهو مجموعة قصص إنسانية واقعية، وهناك مؤلفات طبعت عدة مرات. كان توفيق يسرق بعض الأوقات لممارسة هواية حب صيد الأسماك في حيفا وعكا، أما أنا فهوايتي اليوم الرسم والتطريز.

* يشار إلى أن كتاب “المتفائل” سيرة حياة توفيق زيّاد الاجتماعية، صدر حديثاً عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية “مدار”، للباحث اليهودي المقيم في برلين تَامير سوريك، ترجمه عن الإنكليزية المربي الدكتور باسيليوس بواردي.

شاهد المسار
إغلاق