
المسار …
عضو الأمانة العامة لنقابة الصحفيين الفلسطينيين
حين نكتب عن نهاية محمد، نائبة رئيس الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية، وعضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، لا نرثي شخصًا غاب، بقدر ما نستحضر فكرًا حيًا لم يمت، ومسيرة نسوية طليعية آمنت أن تحرير الوطن يبدأ بتحرير الإنسان، وأن المرأة ليست هامشًا في معادلة النضال، بل قلبها النابض.
منذ بداياتها في العمل الوطني والاجتماعي، أدركت نهاية محمد أن الاحتلال لا يتمثل فقط بجنود ودبابات، بل بمنظومة فكرية اجتماعية متكلسة، تُقصي المرأة، وتُصادر حقها في القرار، وتُحاصرها في أدوار نمطية لا تعكس إمكاناتها ولا مكانتها. ولهذا، خاضت معركتين في آنٍ معًا: معركة ضد الاستعمار الصهيوني، ومعركة ضد الرجعية الفكرية والتخلف المجتمعي.
لم تكن رؤيتها نسوية منعزلة عن الواقع، بل كانت تؤمن أن المجتمع الفلسطيني لن ينهض ما لم يتحول إلى مجتمع ديمقراطي عصري، يقوم على المساواة، وتعدد الآراء، واحترام كرامة الإنسان دون تمييز على أساس الجنس أو الطبقة أو الفكر. من هنا، فإن نضالها من داخل الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية، ومن موقعها القيادي في الجبهة الديمقراطية، لم يكن فقط لتحسين ظروف النساء، بل لإعادة صياغة الوعي الوطني بأكمله.
طرحت نهاية محمد أسئلة شائكة في زمن كانت فيه الإجابات جاهزة:
كيف يمكن لمجتمعٍ يقمع المرأة أن يدّعي السعي نحو التحرر؟
وكيف يمكن لمثقفٍ أن يرفض الاحتلال، بينما يصمت عن احتلال العقول؟
لقد كانت تؤمن أن التحرر لا يُنجز على يد قوة واحدة، بل بتكاتف نضالي يحرر الأرض والإنسان معًا، لا أن يحرر الأولى ويعيد استعباد الثانية.
لم تفصل نهاية محمد بين تحرر النساء والتحرر الوطني، بل جعلت من الأول شرطًا للثاني. وبهذا، كانت من القلائل اللواتي فهمن أن المشروع الاستعماري لا يسعى فقط لنهب الأرض، بل لإعادة تشكيل الهوية الفلسطينية عبر إعادة إنتاج علاقات السلطة والهيمنة داخل البيت الفلسطيني ذاته.
واليوم، ونحن نودّع هذه القامة النسوية، لا بد أن نتأمل المسافة التي تفصل بين الحلم الذي آمنت به، والواقع الذي نعيشه. ففي زمنٍ تتصاعد فيه النزعات الأبوية، وتتراجع فيه القيم الديمقراطية، وتُقصى النساء من مواقع التأثير، تبدو كلمات نهاية محمد أكثر راهنية، وأكثر حاجة لأن تتحول إلى برنامج نضالي لا إلى مجرد إرث يُحكى عنه في مناسبات العزاء.
لقد كانت نهاية محمد تقول دومًا: “لا يكفي أن نقاتل من أجل الأرض إن لم نقاتل من أجل من يقفون عليها، نساءً ورجالًا أحرار الفكر والكرامة.”
هذه الجملة التي رددتها في أكثر من مناسبة، لم تكن مجرد شعار، بل خريطة طريق. فقد شهدت زميلاتها في الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية أنها كانت ترفض أي فعل نضالي لا يُشرك المرأة، وكانت تراجع الخطابات العامة من منظور نقدي، تحرري، يُعيد تعريف البطولة لا كحصرية ذكورية، بل كفعل إنساني جماعي.
قالت عنها إحدى رفيقاتها:
“كانت نهاية تسألنا دومًا: ماذا سنفعل حين تُحرر فلسطين ونبقى محكومين بعقلية الاحتلال داخل بيوتنا؟ كانت تفتح الجرح كي نراه، لا لتتركه ينزف، بل لنعالجه بوعي.”
بمثل هذا الوعي، عاشت نهاية محمد ورحلت، لكنها تركت إرثًا لا يُختزل في منصب، بل في مشروع نضالي مفتوح، عنوانه: تحرر الإنسان الفلسطيني، كل الإنسان.