
المسار : مؤخراً دعيت لحضور مناقشة أطروحة دكتوراه تناولت ممارسة مديري التربية والتعليم في فلسطين للقيادة الأخلاقية… الخ، حيث تناولت الأطروحة جانباً فكرياً واجتماعياً يتعلق بالمنظومة الأخلاقية والقيمية، حيث استمعت بعناية إلى ملاحظات أعضاء لجنة النقاش والحكم ، ما لفتني أن أحد أعضاء اللجنة أشار في طرح نقدي أن الباحثة التي تناولت في إحدى مقرباتها بأنها ساوت بين أخلاق مديري التربية والتعليم في فلسطين والفرسان ، وشيوخ العشائر ، أي أنها أرادت القول أن مديري التربية والتعليم لا يقلون بحضورهم وقيادتهم عن “أخلاق الفرسان” و”أخلاق الشيوخ”. وقد كان لافتاً حين قال أن القراصنة أيضاً فرساناً، في إشارة إلى أن توصيف “الفروسية” لا ينحصر فقط في الصورة التقليدية المرتبطة بالقيم النبيلة والشرف، بل يمكن أن يمتد ليشمل حتى أولئك الذين يتحركون خارج القانون والنظام، مثل القراصنة، طالما امتلكوا الجرأة والقدرة على التحدي وصناعة الفعل في الواقع. ومن هذا المنطلق، أراد أن يلفت إلى أن تصنيف الأشخاص كفرسان أو غير فرسان ليس مرتبطاً فقط بالمنظومة الأخلاقية المثالية التي نسقطها عليهم.
وددت في هذا المقال وانطلاقاً من هذه الزاوية النقدية، أن أبين أن هناك فرقاً جوهرياً بين أخلاق الفرسان وأخلاق القراصنة ، ليس بسبب أن الفرق يكمن في البنية القيمية التي تحكم كل منهما، وفي الأطر الأخلاقية التي يستندان إليها، رغم ما قد يبدو على السطح من تشابهات شكلية في بعض السلوكيات كالشجاعة أو الجرأة أو تحدي السلطة . بل لأن هناك خلطاً في قضايا كثيرة ، نعيشها اليوم نحن كفلسطينيين ، غير أن هذا التشابه الظاهري يخفي وراءه اختلافاً جذرياً في المنطلقات والمقاصد والمعايير التي تحكم أفعال كل من الفارس والقرصان، بحيث لا يمكن بحال من الأحوال وضعهما في سلة أخلاقية واحدة أو الادعاء أن أخلاق القراصنة هي ذاتها أخلاق الفرسان.
الفارس هو ابن منظومة أخلاقية واضحة المعالم، تستند إلى قواعد الشرف والنبل واحترام الكلمة والالتزام بالعهود، وهو جزء من منظومة اجتماعية وقانونية تعترف به وتحتضنه، بل وتمنحه ألقاباً وامتيازات مرتبطة بما يجسده من قيم الدفاع عن الضعفاء، حماية الأرض والعرض، الالتزام بالقانون، وخوض المعارك في إطار قواعد صارمة تحدد متى وكيف ولماذا يقاتل. أخلاق الفرسان نشأت في قلب المجتمعات المنظمة، وكانت مرتبطة بمفاهيم الولاء للملك أو للوطن، وبالانضباط تحت لواء القانون، وبالالتزام بحماية المدنيين والضعفاء، بل إن الشجاعة عند الفارس ليست مجرد تهور أو عنف أعمى، بل هي شجاعة منضبطة تحكمها القيم وتوجهها نحو غايات نبيلة.
أما القرصان، فهو ابن التمرد على النظام والقانون، ومنظومته الأخلاقية لا تعترف بالشرعية الاجتماعية أو السياسية، بل تقوم على الاغتصاب والمصادرة بالقوة والخداع. القراصنة لا يحكمهم ميثاق شرف بالمعنى المتعارف عليه عند الفرسان، بل تحكمهم قوانين عصابات تتأسس على المصلحة والنهب والسلب، ولو أن بعضهم ابتدعوا شكلاً من أشكال التنظيم الداخلي لضبط توزيع الغنائم أو إدارة السفينة، إلا أن ذلك لا يرقى ليكون منظومة أخلاقية متكاملة، بل هو أقرب إلى آلية لضبط الطمع داخل الجماعة، لا أكثر. القرصان قد يُظهر شجاعة أو دهاءً، لكنه يوظف هذه الصفات لتحقيق غايات شخصية أنانية، لا تخضع لمعايير الشرف أو حماية الأبرياء، بل تقوم على استباحة حقوق الآخرين وتهديد أمنهم واستقرارهم.
التشابه في بعض الصفات الشكلية، مثل الجرأة أو القدرة على خوض المخاطر، لا يلغي الفارق الجوهري بين الاثنين. الفارس لا يُخضع سيفه لرغباته الشخصية أو لنزواته، بل يفترض فيه أن يكون صاحب مبدأ، يسعى للعدل حتى وهو في ساحات القتال، ويُحجم عن استغلال ضعيف أو خيانة عهد. بينما القرصان يتحرك خارج منظومة القيم تلك، لا يردعه شرف ولا يوقفه التزام، بل يرى في القانون قيداً يجب كسره، وفي السلطة عدواً يجب تقويضه، وفي الحقوق فرصة للاغتصاب متى ما امتلك القوة لتحقيق ذلك.
إن محاولة مساواة أخلاق الفرسان بأخلاق القراصنة تمثل قفزاً على المعاني العميقة للأخلاق والكرامة والشرف. فأخلاق الفرسان ليست مجرد قواعد سلوك ظرفية، بل هي امتداد لتاريخ طويل من الفلسفة الاجتماعية والسياسية التي كرست مفاهيم الواجب والالتزام وحماية الحقوق. بينما أخلاق القراصنة ـ إن صح تسميتها كذلك ـ هي أخلاق مؤقتة، متقلبة، مصلحية، تُبنى على القوة وتنتهي بانتهائها، ولا تحمل في جوهرها أي التزام أخلاقي حقيقي تجاه المجتمع أو الإنسان.
من هنا، يتضح أن أخلاق القراصنة ليست هي نفس أخلاق الفرسان، بل هما نقيضان من حيث الجوهر، مهما حاول البعض تصوير القراصنة كأبطال رومانسيين في بعض الروايات أو الأفلام. فالبطولة ليست في التمرد على القانون لمجرد التمرد، ولا في التعدي على الآخرين بحثاً عن الغنائم، بل البطولة الحقيقية تتجسد في ضبط القوة بالأخلاق، وتسخير الشجاعة لخدمة القيم العليا، لا لخدمة الأهواء الشخصية والنزعات المدمرة.
القراصنة، ينطلقوا من منظومة مغايرة تماماً. في ثقافتهم، لا وجود لقيمة الشرف إلا بمعناها النسبي الذي يصب في مصلحة المجموعة، ولا قدسية للعهد إلا بقدر ما يخدم الغاية الآنية. الخيانة والغدر كانت وسائل مشروعة في عرفهم، بل قد تكون محط إعجاب إذا قادت إلى مكسب أكبر. كانت المصلحة الذاتية هي الإطار الحاكم لتصرفاتهم، حتى داخل جماعتهم. لم يكن للقوانين وزن إلا بمقدار ما تفرضه القوة. فالقانون في عالم القراصنة هو قانون الأقوى، ومن يتزعم السفينة هو من يستطيع فرض سطوته بالقوة والدهاء. في هذا السياق، يغدو الغدر مهارة، والكذب وسيلة، والنهب فضيلة، والانتصار بأي وسيلة هو الإنجاز الحقيقي.
فإذا كان الفارس يتجنب الاعتداء على المدنيين أو المسالمين، فإن القرصان يعتبرهم صيداً سهلاً مشروعاً، وإذا كان الفارس يقاتل وفقاً لقواعد شبه مقدسة تحكم معاركه، فإن القرصان يختلق قواعده في اللحظة التي تخدمه، ويبدلها في اللحظة التي تصبح عائقاً أمامه. حتى مفهوم البطولة عند الفارس يختلف عن مفهومها عند القرصان؛ فبطولة الفارس ترتبط بالتضحية والانتصار الشريف، بينما بطولة القرصان تقاس بقدرته على التحايل، والسيطرة، وجني الغنائم ولو عبر أبشع الوسائل.
أخلاق الفرسان تستبطن قدراً من الإنسانية، فهم رغم قتالهم لم يكونوا يتخلون عن معايير أخلاقية تحكم علاقتهم بالخصم، وكانوا يلتزمون بحماية النساء والأطفال والأسرى، ويعتبرون الإساءة لهم وصمة عار تلاحقهم. في حين أن أخلاق القراصنة تتجرد من هذه الاعتبارات؛ فالمدنيون، الأسرى، وحتى من ينتمي لفئات مستضعفة، كانوا جميعاً أهدافاً محتملة ضمن منظومة لا تعرف الرحمة ولا تعترف بالضعف. لم يكن هناك في سفن القراصنة مكان للتعاطف أو الشفقة، بل كانت الغلبة لمن يستطيع أن يكون أكثر قسوة وأقل اكتراثاً.
الفرق الجوهري بين المنظومتين هو أن أخلاق الفرسان كانت تمثل محاولة لتقنين العنف وجعله يخضع لقواعد توازن بين الشجاعة والإنسانية، بينما أخلاق القراصنة أطلقت العنان لعنف لا تحكمه سوى مصلحة فورية وعشوائية، حتى أن القراصنة كانوا يتفاخرون بكسر القواعد، ويعدون ذلك نوعاً من التفوق الذكي على المجتمعات التي تقيد نفسها بالأخلاق. من هنا يمكن القول إن الفارس حتى في ساحة الحرب كان يسعى للارتقاء بخصومه من خلال معركة نزيهة، بينما كان القرصان يسعى لتحطيمهم بالكامل عبر الخيانة والكمين واستغلال اللحظات التي يكونون فيها في أضعف حالاتهم.
لقد ارتبط الفارس بصورة مثالية تجسد البطولة التي تتسم بالنبل والكرامة والإقدام والتضحية والبطولة والشجاعة ، حتى أن فشل الفارس في الالتزام بمبادئه كان يُعد سقوطاً مدوياً أمام ذاته قبل أن يكون أمام الآخرين. أما القرصان فقد ارتبط بالصورة النفعية البحتة التي ترى في كل شيء وسيلة قابلة للاستعمال متى خدمته اللحظة. هذا الفرق العميق بين الاثنين يعكس صراعاً بين مدرستين؛ واحدة تؤمن بأن الأخلاق جزء لا يتجزأ من القوة، وأخرى ترى أن القوة لا تحتاج إلى أخلاق إلا بالقدر الذي يخدم بقاءها. وبين هاتين المدرستين يتحدد مصير الإنسان إما أن يكون فارساً تُقيده مبادئه وإن كلفه ذلك حياته، أو أن يكون قرصاناً يقيد الآخرين ويُطلق العنان لنفسه بلا أي وازع.
ختاماً، لا يمكن القبول بمحاولات التلاعب بالمفاهيم وتزييف الوقائع، فالقراصنة ليسوا فرساناً، ولا يمكن أن يساوى بين من يحمل السلاح للنهب والسلب، ومن يضع سيفه في خدمة قيم الشرف والعدالة. بنفس المنطق، المقاومة المشروعة لشعب يناضل ضد الاحتلال ليست إرهاباً، بل هي ممارسة قانونية وحق أصيل تكفله القوانين الدولية والشرعية الأممية، بينما الإرهاب الحقيقي هو الاحتلال ذاته، وما يرتكبه من جرائم بحق الأرض والإنسان.
كما أن من يدعون اليوم علناً أو ضمنياً فصل بعض محافظات الضفة الغربية وتحويلها إلى كيانات منفصلة أو روابط وهمية لا يمثلون الشعب الفلسطيني ولا إرادته الوطنية، بل يكررون تجربة روابط القرى سيئة الصيت التي أنشأها الاحتلال ومولها لتفتيت وحدة الفلسطينيين وشرعنة السيطرة الاستعمارية. وتماماً كما مولت بريطانيا الاستعمارية فرق السلام التي كانت ذراعاً لتكريس الهيمنة وإسكات صوت الشعوب، فإن مشاريع الاحتلال الجديدة ليست سوى نسخة محدثة من تلك الأدوات البائسة التي يلفظها الوعي الوطني الفلسطيني، وسيسقطها كما أسقط غيرها عبر تاريخه النضالي الطويل ، كُثر اليوم من يحملون البندقية ، ولكننا لا نعرف في كثير من الأحيان إذا ما كانت بندقية من الوطن ولأجل الوطن أم أنها بندقية قراصنة أو قطاع طرق أو بندقية من أجل ثأرٍ اجتماعي، ولكننا جميعاً سنعرف يقيناً أنها بندقية شريفة عندما نرى إلى أين وجهتها .لذلك يقال ثمة بون شاسع بين الثرى والثرية ،لذا فأخلاق القراصنة ليست أخلاق الفرسان !.