الصحافة العبرية … الملف اليومي الصادر عن المكتب الصحافي التابع للجبهة الديمقراطية

 الصحافة الاسرائيلية – الملف اليومي

افتتاحيات الصحف + تقارير + مقالات

هآرتس 25/10/2024

كيف ومتى تم رفع الحظر عن القتل الجماعي لسكان غزة

بقلم: مايا روزنفيلد

في الوقت الذي كتبت فيه هذه الاقوال، في الشهر الـ 12 وبداية الشهر الـ 13 للحرب، فان عدد القتلى في قطاع غزة تجاوز الـ 41 ألف، وبعده الـ 42 ألف، 2 في المئة من سكان القطاع. وحسب التقديرات التي ترتكز الى البيانات التي تم جمعها حتى الآن فان حوالي ثلث القتلى هم من الأطفال، لكن العدد الدقيق غير معروف. حتى 31 آف تم تشخيص 34.344 شهيد، من بينهم 11.355 طفل (33.08 في المئة).

المعطيات الرقمية تتحدث عن نفسها. هي تأخذ المعنى من خلال السياقات الواقعية والمقارنة. ولكن هناك معطيات، رغم أنه لا يمكنها التحدث، إلا أنها تصرخ الى عنان السماء بشكل يهز الأركان. احد هذه المعطيات هو قتل 11.355 طفل فلسطيني في القطاع في الفترة بين 7 تشرين الأول 2023 و31 آب 2024. بالنسبة لمن سينقضون علي باسم ضرورة الدقة، سأقول بأنه حتى لو كان العدد أقل ببضعة آلاف، وتوجد دلائل كثيرة بأن العكس هو الصحيح، إلا أنه ما زال عدد يشق السماء بصرخة مخيفة. 

في نهاية المطاف أي شخص حصل على ثقافة وتعليم أساسي يدرك بأنه من اجل قتل عدد كبير جدا من الأطفال فانه مطلوب استخدام بشكل لا يتوقف وسائل قاتلة بقوة كبيرة جدا ضد سكان مدنيين. أي شخص شاهد الاحداث الفظيعة في القرن العشرين أو تعلم عنها يعرف أن الإبادة الجماعية لسكان مدنيين هي جريمة ضد الإنسانية وخرق شديد غير مسبوق للقوانين الدولية، التي وضعت من اجل حماية العاجزين ومنع التدهور الى ما هو أكثر فظاعة. مع كل ضعفها واخفاقاتها فان المؤسسات الدولية التي أقيمت تحت مظلة الأمم المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية لضمان أن “لا يتكرر ذلك الى الأبد”، إلا أنها نجحت في توريث لاجزاء واسعة في الإنسانية الوعي بأن الإبادة الجماعية للمدنيين، بالتأكيد الأطفال، هي أمر محظور، “طابو”.

الامر ليس هكذا في إسرائيل في 2023 و2024. لدينا سكان غزة مستثنين من هذا الحظر. أيضا اذا استثنينا شريحة السكان الدينية القومية المتطرفة والعنصرية، التي تعمل على تدمير “سلالة عملاق” طوال الوقت، فانه بالنسبة لمعظم الجمهور اليهودي في إسرائيل الآن مسموح قتل الغزيين، شريطة أن يسمح الجيش بذلك. ربما أن المؤشر الأكثر وضوحا على رفع الحظر هو الغياب شبه المطلق لذكر القتل الجماعي في احتجاج الجمهور ضد الحكومة منذ 7 أكتوبر؛ في الحقيقة لم تنبت من داخل الاحتجاج حركة مقاومة جماهيرية للحرب. اذا لم يكن هناك أي شرعية للقتل لما كان سيستمر، هكذا على الأقل تعلمنا قصة احتجاج الجمهور على حرب لبنان الأولى في صيف 1982، حيث الغضب على القتل الجماعي للمدنيين الفلسطينيين في عمليات قصف سلاح الجو وقف في مركزها بدرجة لا تقل عن معارضة أهدافها السياسية. ما الذي جعل معظم الجمهور اليهودي في إسرائيل يقوم باستثناء سكان غزة من هذا الحظر، الذي فرضته الحضارة الحديثة، للابادة الجماعية للمدنيين؟.

جزء من الإجابة على ذلك يكمن في التخفيض المستمر لقيمة حياة الفلسطينيين، في غزة وفي الضفة الغربية، تحت نظام الاحتلال الإسرائيلي. خلال عشرات السنين استخدمت إسرائيل بشكل منهجي القوة العسكرية، القانون العسكري والقضاء العسكري، من اجل تجريد الفلسطينيين من أراضيهم، سرقة أراضيهم ومواردهم، وحبسهم في مناطق سكنية صغيرة وراء الجدران والحواجز، ومنعهم من كسب الرزق والعيش من عملهم، وحرمانهم من الحياة الاجتماعية والسياسية والعامة بشكل حر، وتعويق تأسيس استقلالهم ومؤسساتهم الوطنية. هذه السياسة لم تضر فقط بكل مجالات حياة الفلسطينيين، بل أيضا خفضت بشكل كبير قيمتهم في نظر الجمهور اليهودي في إسرائيل.

عملية التخفيض هذه تم تسريعها اكثر في العقود الأخيرة على خلفية إدارة الظهر بشكل كامل من جانب إسرائيل للسلام الذي يقوم على انهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية. وترسخ التصور الذي يقول بأنه يمكن الاستمرار بالاحتفاظ الى الأبد بالمناطق المحتلة بواسطة استخدام القوة العسكرية، ولد لدينا جيش االخبرة الأساسية لقادته وجنوده هي السيطرة على المناطق المحتلة وسكانها وقمع أي صورة للمقاومة الفلسطينية. تنفيذ هذه المهمة لفترة طويلة اجبر الجيش على تصعيد العنف الذي يستخدمه، وزيادة دائرة الفلسطينيين المتضررين منه.

تبرير القتل الجماعي للفلسطينيين بذريعة أن الامر يتعلق بـ “ضرورة لا بد منها”، مر بشكل سهل في حنجرة الجمهور؛ على ذلك دلل غياب الاحتجاج على هجمات إسرائيل في عملية “الجرف الصامد” في 2014 التي قتل فيها الجيش 2202 من الغزيين، بينهم 526 طفل تحت سن الـ 18 (حسب معطيات “بتسيلم”). ولكن رغم أنه يمكن رؤية في نموذج العملية العسكرية في تلك الفترة وفي الشرعية الجماهيرية التي أعطيت لها نوع من “المقدمة” لما يحدث الآن في الحرب في غزة، إلا أن التغيير هو اكثر من الخيال. عملية الجرف الصامد تم وقفها بعد 55 يوم في اعقاب الضغط من الخارج، الذي في نهاية الامر فرض على إسرائيل الموافقة على خطة وقف اطلاق النار مع حماس. العملية تسببت بخسارة ودمار غير مسبوقين مقارنة مع هجمات سابقة، لكنها لم تصبح حرب تدميرية شاملة.

متى وكيف تم رفع “الطابو” عن الإبادة الجماعية لسكان غزة؟ في نظرة أولية يبدو أن المفتاح يوجد في الهجوم المفاجيء والقاتل لحماس في 7 أكتوبر. الذعر والصدمة من اعمال الذبح لسكان النقب الغربي والمشاركين في حفلة “نوفا” واختطافهم ولد في أوساط الكثيرين مشاعر الانتقام القوية، التي تم استخدامها كوقود للخطاب المؤيد للابادة، التي تم تأجيجها من قبل القيادة السياسية وولدت الدعم لها في وسائل الاعلام. ولكن توجد مسافة كبيرة بين الخطاب الذي يشجع على الإبادة (“أريد رؤية بحر غزة من نافذة بيتي”)، حتى لو كان سائد بين الجمهور، وبين إعطاء الشرعية الفعلية للافعال التي نتيجتها هي التدمير والمعاناة بشكل كبير لجمهور من الناس.

عندما أعلنت إسرائيل الحرب على حماس في منتهى 7 أكتوبر فان لا أحد من كبار قادة جهاز الامر أشار الى أن الهجوم المخطط له في قطاع غزة يتوقع أن يدمر حوالي 70 في المئة من المباني وشبكة الطرق وشبكة المياه والمجاري وعشرات المستشفيات والمراكز الطبية (حتى نهاية شهر تموز تضرر بسبب الهجمات 32 من بين الـ 36 مستشفى في القطاع، و73 من بين الـ 126 عيادة، وعشرات سيارات الإسعاف) ومئات المدارس (حتى بداية تموز أصيب في عمليات القصف 477 مدرسة من بين 564 مدرسة في القطاع، 85 في المئة، 72 في المئة منها تعرضت لاصابة مباشرة)، أيضا الجامعات والكليات وعشرات المؤسسات العامة. لا أحد أشار الى أن الهجوم يتوقع أن يدمر بشكل كامل البنى التحتية الأساسية، ويحول كل القطاع الى مكان غير قابل للعيش فيه.

لا أحد قام بتفسير أن الهجوم يتوقع أن يجبي حياة عشرات آلاف الرجال والنساء والأطفال، وترك عشرات آلاف المعاقين، وتهجير حوالي 90 في المئة من السكان ومواصلة المس بالنازحين (على الأقل 563 نازح كانوا في مدارس الاونروا التي أصبحت ملاجيء، تم قتلهم في عمليات القصف لهذه الملاجيء، واكثر من نصف المدارس التي يتم استخدامها كمأوى تم قصفها من الجو). ومن اجل أن يهربوا مرة تلو الأخرى من أماكن اللجوء المؤقتة وفرض العطش والجوع والقذارة والرعب الذي لا يتوقف على اكثر من مليوني شخص، والتسبب في انتشار الأوبئة والامراض المعدية، تجبي قتلى آخرين بينهم.

يمكن الافتراض بأنه لو تم عرض خطة عمل تشمل تدمير القطاع وقتل جماعي لسكانه، لكانت ستواجه بمقاومة واسعة من الجمهور، ليس فقط بسبب العلم الأسود الكبير الذي يرفرف فوقها، بل بسبب عدم العقلانية فيها. لم يتم عرض في أي يوم خطة عمل، لكن استراتيجية الحرب التي تم تطبيقها بالفعل كانت استراتيجية إبادة جماعية وتدمير شامل. وحيث أن وسيلة الحرب الأولى هي القصف من الجو، وحيث تقوم طائرات بقصف بدون توقف سكان مكتظين ومحاصرين وليس هناك ما يحميهم، فان النتيجة لا يمكن أن تكون إلا إبادة جماعية وتدمير شامل. عمليات القصف هذه لا تميز، ولا يمكن أن تميز، بين المدنيين وبين المسلحين وبين رجال حماس، هي تقتل الجميع.

التقارير الدورية لمنظمات الإغاثة والإنقاذ في الميدان من الأيام الأولى للحرب مكنت من جمع المعطيات ورسم صورة كاملة. قطاع غزة – الذي تعرض لافظع كارثة من صنع الانسان في الربع الأول في القرن الواحد والعشرين – كان على الأقل محظوظ بالتواجد الدائم لمنظمات الإغاثة للأمم المتحدة فيه ليس بالصدفة، ربما نتيجة لتدخل مؤسسات الأمم المتحدة في النزاع بين إسرائيل والفلسطينيين منذ الحرب في 1948. إضافة الى وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الاونروا” التابعة للأمم المتحدة، التي تشغل في القطاع 27 مركز صحي و284 مدرسة وعدد من المؤسسات والخدمات الأخرى، فانه تعمل هناك بشكل دائم أيضا منظمة الصحة العالمية والصندوق الدولي للطفل “اليونيسيف” و”برنامج الغذاء العالمي” ومكتب تنسيق النشاطات الإنسانية “اوتشا” وغيرها.

الانتظام السريع لمنظمات الإغاثة الدولية والمؤسسات والمنظمات المحلية لاعطاء رد، حتى لو كان مبدئي وجزئي، للمصابين بالهجوم الإسرائيلي، شمل ضمن أمور أخرى، تحويل مدارس الوكالة الى أماكن إيواء لمئات آلاف النازحين، وإقامة مراكز طواريء طبية كبديل للمستشفيات والعيادات التي تم تدميرها و/أو توقفت عن العمل، واخلاء المصابين بإصابة بالغة والجثث من بين الأنقاض ونقلها الى المستشفيات العاملة، وتوفير مياه الشرب الصالحة ورزم مواد غذائية وخيام وفرشات ومواد طبية، وتقديم الدعم النفسي لمئات الأطفال المصابين بالصدمة. كل ذلك في الوقت الذي فيه طواقم الإنقاذ والإغاثة نفسها تخاطر كل يوم تحت القصف، وبعضها تكون هدف مباشر لعمليات القصف.

كلما مر الوقت يتطور التنسيق بين الجهات المختلفة، جمع المعلومات وإصدار التقارير. تكفي مشاهدة التحديثات المفصلة التي تنشرها “اوتشا” مرتين في الأسبوع من اجل الفهم كيف ولماذا عدد القتلى والجرحى والمهجرين والمرضى والجائعين في القطاع يستمر في الارتفاع. عمليات الإنقاذ والمساعدة والتوثيق حولت منظمات الإغاثة الى مصدر المعلومات الرئيسي، ليس فقط عن عدد المصابين وحالتهم، بل أيضا طبيعة إصاباتهم وظروفها. هذه المعلومات هي التي مكنت الحكومات ومؤسسات المجتمع الدولي ووسائل الاعلام الدولية والجماهير في كل مكان من معرفة استراتيجية عمل الجيش الإسرائيلي في القطاع ورؤية نتائجها.

باستثناء مكان واحد فانه في إسرائيل وقفت وسائل الاعلام كسور منيع من اجل خلق عازل بين تقارير منظمات الإغاثة والإنقاذ في القطاع وبين الجمهور، عن طريق إخفاء المعلومات نفسها عن البث في التلفزيون و الراديو والصحف، عن طريق تصنيف رمادي لمعلومات كاذبة مصدرها حماس ومنظمات مقربة منها. بدلا من الإبلاغ بدون تزوير عن أفعال الجيش الإسرائيلي في القطاع ونتائجها، فان وسائل الاعلام في إسرائيل قامت كجسم واحد باعادة تدوير دعاية المتحدث بلسان الجيش الإسرائيلي ولقمت الجمهور بها. 

يبدو أن المتحدث بلسان الجيش لم تكن لديه أي بيانات عن عدد القتلى والمصابين من سكان غزة في القصف المتواصل من الجو، لكنه قام بلوم حماس على قتلهم وهدم بيوتهم، التي تختبيء بين السكان المدنيين. وكأن مجرد تواجد نشطاء حماس في البيوت وفي الشوارع في القطاع لم يترك للجيش الإسرائيلي أي خيار باستثناء قتل جميع سكانه، رجال ونساء وأطفال، بما في ذلك أعضاء حماس.

إن إخفاء المعلومات حول استراتيجية عمل الجيش ونتائجها من جهة، وتكرير دعاية كذب الجيش من جهة أخرى، ساهمت بشكل حاسم في تقديم عرض كاذب للهجوم في القطاع وكأنه حرب دفاعية وكنتيجة لرفع الحظر عن الإبادة الجماعية لسكانه. ليس من نافل القول التذكير بأن الحرب الحالية بدأت كحرب دفاعية واضحة، لكن مرحلة الدفاع فيها جرت كلها على ارض النقب الغربي وانتهت خلال بضعة أيام بهزيمة منفذي المذبحة في 7 أكتوبر. في المقابل، الهجوم في القطاع ليس حرب دفاعية ولم يكن هكذا منذ اليوم الأول. وسائل الاعلام التي قامت بخيانة مهمتها الأساسية، مهمة التغطية والابلاغ، ساهمت في تمويه ذلك بشكل جيد. 

الإبادة الجماعية وتدمير اركان الوجود التي يتسبب بها الهجوم في القطاع، ليست نتيجة غير مقصودة للرد على هجوم حماس في 7 تشرين الأول، بل هي هدف بحد ذاته. وهي جزء من استراتيجية إسرائيل الشاملة، التي هدفها النهائي هو منع الفلسطينيين من حقهم في تقرير المصير في وطنهم في المستقبل المنظور، ومنع إقامة الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة. الهدف النهائي هو افشال الامكانية المادية، ليس السياسية فقط، للحل السياسي عن طريق تحويل الفلسطينيين الى غبار بشري وتدمير فلسطين.

لا ينبغي الاستخفاف بالقول إن حماس نفذت الهجوم القاتل في 7 أكتوبر، مع معرفتها القاطعة بأن هذا التحرك سيؤدي الى كارثة للفلسطينيين. ولكن اللعبة الساخرة والقاسية التي تمارسها حماس في حياة سكان غزة لا تعفي إسرائيل من المسؤولية عن الجرائم ضد الإنسانية التي ترتكبها منذ اكثر من سنة، بمساندة الكثير من مواطنيها ومنظماتها، وبموافقة ضمنية من كثيرين آخرين. إن رفع الحظر عن الإبادة الجماعية للسكان المدنيين منح الجمهور في إسرائيل اعفاء مؤقت من الاعتراف بهذه المسؤولية. ويخطيء من يعتقد أنه سيكون بالإمكان التملص من ذلك الى الأبد.

——————————————–

إسرائيل اليوم 25/10/2024

كلما أقمنا سورا حديديا اكبر ستتعاظم جولات الصراع

بقلم: العميد تسفيكا حايموفيتش

في حملة “عمود السحاب”، حماس أنهت جولة التصعيد القصيرة، التي بدأت في اعقاب تصفية رئيس اركان المنظمة أحمد الجعبري بالنار على تل أبيب بحجم نحو 20 صاروخا في الرشقة. حملة “الجرف الصامد” التي بدأت بعد أسابيع من اختطاف وقتل الفتيان الثلاثة في غوش عصيون، بدأت برشقة  أولية من نحو 30 صاروخا باتجاه اسدود، وفي اثناء الحملة اتسعت النار الى ديمونا والقدس (الى جانب النار على غوش دان بالطبع، التي أصبحت امرا اعتياديا). حملة “حارس الاسوار” بدأت برشقة نحو القدس، وفي اثناء 11 يوما من القتال اطلقت في كل يوم رشقات من 80 صاروخا فأكثر. وحجوم الاطلاقات في حرب السيوف الحديدية كلنا نراها. 

لنقفز الى ساحة أخرى، ايران. هذه اجتازت “حاجز المرة الأولى” في ليل 14 نيسان واطلقت الى إسرائيل اكثر من 300 عنصر ذخيرة، وبينها 110 صاروخ باليستي، غالبيتها الساحقة (85 – 90 في المئة) احبطتها إسرائيل وبعضها احبطه الجيش الأمريكي. في المرة الثانية، في 1 أكتوبر، ردا على تصفية هنية ونصرالله، وحسابات مفتوحة أخرى، اطلقت ايران برشقة واحدة 181 صاروخا باليستيا، في سيناريو اكثر تحديا وتعقيدا. 

في ملعب آخر، على مدى السنين حاولت إسرائيل بشكل منهاجي اغلاق حدودها ومنع إمكانية التسلل عبرها. حيال التهديد البري بنيت اسوار وعوائق، أجبرت العدو على أن يجد الطريق لاجتياز الاسوار – فتوجه الى الانفاق. التهديد الصاروخي رد عليه بتطوير منظومة القبة الحديدية، وعندما أحبطت هذه النار المرة تلو الأخرى بمعدلات اعتراض عالية للغاية – توجه اعداؤنا الى بعد جوي جديد، في شكل حوامات ومُسيرات. 

تخلق مفارقة الدفاع واقعا تطور فيه إسرائيل قدرات للتصدي لاعدائها ولاساليب التهديد، مما يشجع أولئك الأعداء على إيجاد سبل إبداعية لتجاوز السور الحديدي الدفاعي ويدفعهم لان يجدوا حلولا تفاجئنا في كل مرة من جديد. إضافة الى ذلك يصعد اعداؤنا ويشددون التهديدات بنية تجاوز وتحدي سور الدفاع إياه – ولا يهم اذا كانوا يحاولون حفر انفاق اعمق كي يتجاوزوا العائق التحت أرضي الذي بني، يزيد حجم الرشقاق القليلة الى مئات كي يتحدثوا منظومات الدفاع الجوي او ينتقلون الى التهديد في شكل حوامات ومُسيرات – ورأينا في الحرب الحالية كيف امسك هذا التهديد بإسرائيل غير جاهزة بشكل كاف. 

في الأيام الأخيرة، يفيد نشر “وثائق السنوار” بان زعيم منظمة الإرهاب خطط للاجتياح البري في خريف 2022. ويفهم من الوثائق بان شرحه للسيد الإيراني كان أنه يخشى ان يستوعب الجيش الإسرائيلي قدرات دفاع جوي جديدة تشوش وتحبط قدراته. ولا شك أنه يقصد قدرة الليزر وتصديها للتهديدات الصاروخية بعيدة وقصيرة المدى. وبالتالي لو كان لدينا شك كيف توجه قدرات الدفاع العدو لايجاد حلول هجومية أخرى – نكون حصلنا على دليل آخر. 

ليس لنا ترف عدم التصدي وتقديم الجواب، لكن في نفس الوقت علينا أن نكون على ما يكفي من مرونة وسرعة الرد كي نفهم ونلاحظ اننا ندفع اعداءنا لان ينتقلوا لاستخدام أساليب جديدة. 

في فحص ردود الفعل والخطوات العسكرية من الصواب دوما النظر الى قدرات وردود فعل الطرف المقابل، لكن أيضا قيود القوة في الهجوم وفي الدفاع. في سياق التعلم ومنافسة السلاح علينا أن نكون دوما خطوة واحدة قبل اعدائنا. ان نسأل انفسنا ماذا ستكون الخطوة التالية او الاتجاه التالي الذي نوجه فيه العدو في نصب اسوار الدفاع.

——————————————–

يديعوت احرونوت 25/10/2024

يسعى نتنياهو لان يعزو تصفية السنوار لقراره المسبق للدخول الى رفح

بقلم: نداف ايال

لقد كانت تصفية يحيى السنوار لحظة هامة في الحرب. بالنسبة للاسرائيليين، لحظة مرضية من اغلاق دائرة ضروري، مناسب. لكن لم يكن ممكنا الإدمان على إحساس النشوة التي تدور له الرأس. كان هذا متعذرا امام الاخبار. سقوط ستة مقاتلين من وحدة غولاني في لبنان في المعركة. استمرار القتال العنيد في قطاع غزة والضحايا هناك. سقوط قائد اللواء 401، احسان دقسة في جباليا. وفي الجبهة الداخلية، التي ليست جبهة داخلية، استمرار صافرات الإنذار، المُسيرات. الحرب التي تطلب كل شيء ولا تهدأ ابدا. 

لكن مكتب رئيس الوزراء ووكلائه امتلأوا بالنشوة بالتأكيد. ببهجة الحملة. هم لم يكتفوا بفرح وطني على موت العدو القديم على ايدي مقاتلي الجيش الإسرائيلي. هذا يبعث على التثاؤب في نظرهم، ولا يمكن جني المرابح السياسية منه. أسلحة الدعاية وجيوش الخطابات اطلقت مع الفجر كي تربح قدر الإمكان. بعد اطلاع السكرتير العسكري المخلص مكتب رئيس الوزراء بتصفية السنوار بدأت تتسرب الانباء. في جهاز الامن وفي الجيش الإسرائيلي غضبوا وخافوا على مصير القوات في الميدان. صاروخ مضاد للدروع واحد او تفجير عبوة كانا سيؤديان الى مصيبة. لكن التسريبات كانت حرجة لاناس نتنياهو. نتنياهو، شخصيا تكبد عناء الاتصال ليبشر باحتفالية أناسا معينين، قبل ساعات طويلة من بيان الجيش الإسرائيلي.

ومن هذه اللحظة، بدلا من النظر بثبات الى الامام والسؤال ماذا سيفعل المستوى السياسي بهذا الإنجاز العظيم، ثمرة التصميم في قيادة المنطقة الجنوبية، كانت النظر كلها الى الوراء. كانت الرسالة واضحة كالشمس: فقط بفضل نتنياهو دخلنا الى رفح والسنوار مات. يحيى بيبي والى الامام لاغلاق الحسابات. 

إذن أولا يجب ان نكتب ما هو صحيح: اذا كنا نعتبر رئيس الوزراء، وزير الدفاع ورئيس الأركان مسؤولين عن اخفاق 7 أكتوبر، فيجب أن نعطيهم الحظوة أيضا عن النجاحات بعده. نتنياهو يستحق الثناء كرئيس وزراء في النجاحات العملياتية: هو ليس الأول الذي يفعل هذا. لكن هذه النجاحات لا تغطي القصور الرهيب إياه. وفي نفس الوقت: يجدر بنا أن نتذكر من المسؤول عن ماذا. الجيش الإسرائيلي وجهاز الامن يفترض بهم أن يجلبوا إنجازات في ميدان المعركة. وهم يفعلون هذا باستمرار بعد أن فشلوا على نحو رهيب في 7 أكتوبر. اما الزعيم الذي هو أيضا فشل فشلا رهيبا، فيفترض به أن يحول الإنجازات لتصبح تغييرا استراتيجيا – نصرا حقيقيا في الحرب. مثلا، استبدال نظام حماس في قطاع غزة بنظام آخر. منذ بداية الحرب، كان الإنجاز الأكبر للمستوى السياسي هو صفقة المخطوفين الأولى. وهذه حصلت في نهاية تشرين الثاني 2023. اما الان فنحن في أكتوبر 2024. 

من الخسارة أن نستطرد في الحديث عن الكذبة وكأن نتنياهو هو الذي دفع نحو العملية في رفح في الوقت الذي عارضت فيه كل المنظومة. لاجل السجل التاريخي، ها هو موجز قصير: كان غانتس وآيزنكوت هما اللذان حثا على ذلك بداية لانهما شعرا بانه يوجد تركيز زائد على شمال القطاع، ونتنياهو نفسه أخر وعرقل؛ نتنياهو أيضا لعب بفكرة “وقف نار دائم” في قطاع غزة منذ شهر أيار، كجزء من تسوية لاعادة المخطوفين؛ وبخلاف ما يفهمه الجمهور، فان إسرائيل بقيادته تعهدت للامريكيين الا يدخل الجيش الإسرائيلي الى معظم منطقة مدينة رفح (بخلاف حي تل السلطان، الذي كان معروفا كمعقل لحماس)، واوفت بكلمتها؛ والاهم – لنفترض ان نتنياهو كان سيصل الى وقف نار لبضعة أسابيع، كما أراد، وتحرر المخطوفون. بالضبط مثلما في الصفقة الأولى، يمكن الافتراض في أن النار كانت ستستأنف بعد ذلك، أيضا، واساسا في منطقة رفح. والسنوار، أخيرا، كان سيقتل بنار الجيش الإسرائيلي. باستثناء أنه في مثل هذه الحالة، كان سيكون في أيدينا إضافة الى ذلك، عشرات الإسرائيليين الاحياء أيضا ممن كانوا عادوا الى الديار من أنفاق التعذيب في غزة. 

عدد لا يحصى من التناقضات الداخلية: نتنياهو عرض رفح المعقل الأخير لحماس في قطاع غزة. اذا ما احتليناها، وصفينا الكتائب المتبقية فاذا بكل شيء سينتهي. لكن في الأسابيع الأخيرة وحدها قتل عشرات المقاتلين الإسرائيليين في غزة، بعد اشهر عديدة من استيلاء الجيش الإسرائيلي على معظم منطقة رفح. تصفية كبير المخربين السنوار تعرض كالنصر المطلق، وفي نفس الوقت يقول نتنياهو ان الحرب لم تنتهي. 

وفضلا عن كل هذا، توجد بالطبع الكراهية. الشروع في رقصة اتهامات كاذبة، صيد ساحرات يستند الى مقاطع جزئية وانصاف جمل؟ خوض حملة كهذه في دولة يوجد فيها اجماع بان السنوار هو ابن موت؟ لا حدود للتهكم. بعد رفح شرح نتنياهو بان فيلادلفيا هو صخرة وجودنا. بعد قليل من يدري، لعل لهذا سيكون شريط الامن في لبنان، او نتائج ناجحة لهجوم في ايران. 

ان اختبار نتنياهو ليس استخدام جيوش الدعاية الرخيصة لديه بل خلق حل إقليمي قابل للتطبيق والانفاذ، يوقف النار في كل الجبهات في ظروف نصر لإسرائيل، واولا وقبل كل شيء إعادة المخطوفين. 

——————————————–

هآرتس 25/10/2024

الجيش الإسرائيلي قدم للحكومة صور نصر ولكنها مشغولة بالهجوم في ايران

بقلم: عاموس هرئيلِ

سلسلة النجاحات العملياتية الأخيرة والتي سجلتها إسرائيل كان يمكن أن تمكنها من عرضها كسلسلة صور نصر، وتمهيد الأرض لاستراتيجية خروج من الحرب الإقليمية. المس الممنهج بحزب الله، قتل معظم قادة حزب الله وحماس وتدمير البنى التحتية العسكرية في جنوب لبنان، والاضرار العسكري بحماس في قطاع غزة – كل ذلك يعكس ترجيح الكفة لصالح إسرائيل بعد سنة واكثر على حرب قاسية وباهظة الثمن.

عمليا، يبدو أن العكس بالضبط هو الذي يحدث، إسرائيل تصمم على مواصلة الغرق في وحل غزة ولا تعمل حقا من اجل الدفع قدما بصفقة التبادل رغم التقديرات التي سمعت بعد موت زعيم حماس يحيى السنوار. في لبنان رغم أن الجيش يسعى الى انهاء العمليات إلا أن الحكومة لا تظهر أي إشارة على أنها تنوي تبني في القريب أي تسوية سياسية. عشية العيد قتل أربعة جنود من لواء المشاة في الاحتياط في مواجهة مع رجال حزب الله قرب الحدود، وأمس قتل جندي آخر. في صليات الصواريخ على الشمال أصيب مواطن بإصابة بالغة وصفارات الإنذار وصلت خلال العيد أيضا الى مركز البلاد. ونحن بعد لم نتحدث عن جولة اللكمات البالستية المتوقعة بين إسرائيل وايران في الأيام القريبة القادمة. الورطة تستمر بدرجة كبيرة بسبب حلف غير مقدس للمصالح التي بدايتها كانت في الخطأ الأول، وهو تشكيل الحكومة الحالية في كانون الأول 2022. التحقيقات ضد بنيامين نتنياهو بدأت في 2017.

بعد خمس سنوات من ذلك كان وضعه بائس الى درجة أن يراهن على شراكة اعطى فيها لرؤساء الحزبين من اليمين المتطرف، قوة يهودية والصهيونية الدينية، مكانة حاسمة في الائتلاف ومناصب رفيعة في الحكومة والكابنت. أيضا الأحزاب الحريدية عرفت أنه يمكنها الحصول منه على كل ما تريد. 

مصير الـ 101 مخطوف، المحتجزين في ظروف فظيعة في انفاق غزة، موضوع على كفة الميزان، ولكن بالنسبة للائتلاف هناك أمور ملحة اكثر، كل واحد ومصالحه. نتنياهو وعائلته غارقون في الحاجة الى تعديل الفترينا في بيتهم في قيصاريا التي تضررت بسبب المسيرة التي اطلقها حزب الله. اليمين المتطرف يدفع قدما بإعادة الاستيطان في القطاع. الحريديون مهم بالنسبة لهم تمرير قانون الاعفاء من الخدمة – ومهم للجميع السيطرة على ميزانيات ضخمة على حساب احتياجات الجمهور الواسع. كل الاحتياجات الحزبية هذه تدفع الى اسفل سلم الأولويات الأمور الملحة حقا – انقاذ المخطوفين وإعادة سكان الشمال الى بيوتهم وترميم غلاف غزة وتخفيف العبء على الجنود في الخدمة النظامية وفي الاحتياط.

الائتلاف بكل مكوناته يرد على هذه الطلبات باستخفاف كبير. بعد المذبحة في 7 أكتوبر من السنة الماضية كان يبدو أن الأرض ستهتز، وأن كل ما اتفقنا بشكل ما على تحمله لا يمكن تحمله بعد الآن. لقد مرت سنة وبضعة أسابيع والحكومة عادت لتركز على شؤونها، البعض بالدفع قدما بالانقلاب النظامي، والبعض برحلات مشكوك فيها الى الخارج. عن لجنة تحقيق رسمية – الخطوة الوحيدة المطلوبة اذا تم اخذ في الحسبان حجم الكارثة – من المعروف أنه لا يوجد أي شيء نتحدث عنه.

بالنسبة لهيئة الأركان مشكوك فيه اذا كان يمكن التوصل الى موقف تفوق اكثر وضوحا في الحرب. ربما من هنا يمكن فقط أن نهبط. اللقطة االقريبة لجثة السنوار بين انقاض المنزل في رفح واللقطة البعيدة للرافعة التي تخرج جثة حسن نصر الله من بين انقاض المخبأ تحت الأرض في بيروت، قدمت صور رمزية للنصر. ولها أيضا معنى واهمية معينة. ولكن صور النصر الحقيقية، اذا تحققت، لن تتحقق إلا عندما يعود المخطوفون والجثث الى البيت، وعندما يتمكن سكان البلدات على الحدود الشمالية من العودة الى بيوتهم، وتتم إعادة اعمار حقيقية للبيوت في كيبوتسات بئيري ونير عوز وكفار عزة. 

في الشمال وفي الجنوبى يجد رئيس الأركان هرتسي هليفي ووزير الدفاع يوآف غالنت انفسهما في موقف متدني في الخلاف مع نتنياهو. عندما يشير رئيس الحكومة بأنه ينوي الاستمرار حتى النهاية فما الذي يعنيه ذلك في الواقع؟ هل يقصد إعادة احتلال جنوب لبنان حتى نهر الليطاني؟ هل سيستمر في الضغط العسكري في القطاع الى حين موت آخر المخطوفين؟. مصر اقترحت في هذا الأسبوع حل وسط، فرصته لا تبدو كبيرة، بشأن اطلاق سراح عدد من المخطوفين مقابل وقف اطلاق النار لمدة أسبوعين. من بقوا في قيادة حماس في القطاع، الذين ما زالوا مقيدين بشرط المفاوضات التي املاها السنوار، لا يسارعون الى تبني هذا الاقتراح. في يوم الاحد سيتم في قطر استئناف المحادثات بعد توقف لمدة شهرين مع دول الوساطة حول صفقة التبادل. فرصة التقدم ما زالت ضئيلة.

في الطرف الإسرائيلي الصورة لا تختلف كثيرا عما هي في غزة، حيث أن الوزراء ايتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش أيضا غير مستعدين لاعادة أي سجين فلسطيني مقابل المخطوفين. بالنسبة لهما الحرب ستستمر مع الوعد العبثي بتحرير جميع المخطوفين بالقوة. بالفعل، بهذه الشروط أيضا نحو نصف المخطوفين الذين ما زالوا على قيد الحياة سيموتون في الانفاق وفي عمليات القصف الإسرائيلية، أو أن يقتلوا على يد آسريهم. وربما هذا هو القصد. هكذا بالتدريج، سيتم حل المشكلة من تلقاء نفسها دون أن يطلب من حكومة اليمين المتفاخرة تقديم أي تنازلات أخرى.

بدون وقف اطلاق النار وبدون تحرير المخطوفين مقابل السجناء لن تكون هناك أي تسوية دولية تحدد جوهر اليوم التالي في غزة. الشركاء المحتملون، الامارات والسعودية ومحمد دحلان ورجاله والسلطة الفلسطينية، لن يكونوا في غزة بدون اتفاق يدفع حماس الى الزاوية ويشمل اعتراف رمزي بحلم الدولتين. ولأن نتنياهو لا يريد أن يعطي أي موطيء قدم للسلطة أو حتى لمحمد دحلان، الذي يحظى برعاية دولة الامارات، هذا ليس السناريو المقلق بشكل خاص من ناحيته. الخسارة الوحيدة بالنسبة له تكمن في فقدان احتمالية عقد صفقة التطبيع مع السعودية، لكن يبدو أنه في الأصل يأمل فوز دونالد ترامب في الانتخابات الامريكية بعد أسبوع ونصف على أمل أن يستأنف المحادثات مع الرياض. 

صفقة التبادل ستكون جزء من خطة النهاية، حتى لو بشكل مؤقت، للقتال في الجنوب، وستؤثر أيضا على تهدئة القتال في الشمال. ولكن رئيس الحكومة كالعادة هو شخص مجرور اكثر منه شخص مبادر. تنتظرنا حرب استنزاف طويلة فيها الجنود سيقتلون كل يوم في لبنان وفي قطاع غزة. أيضا على الجبهة الدولية سيحدث تدهور اذا هددت الدول الغربية إسرائيل بفرض عقوبات في مجلس الامن وفرضت اتفاق احادي الجانب الذي سيمنع إسرائيل من استخدام أي من الإنجازات العملياتية. شركاء نتنياهو في اليمين المتطرف توجد لهم خطط اكبر مثل طرد الفلسطينيين من شمال القطاع، إقامة مستوطنات في المنطقة التي سيتم اخلاءها، وربما بعد ذلك طرد المزيد من الفلسطينيين في جنوب القطاع. وكل ذلك لا يمكن تحقيقه بواسطة إعادة المخطوفين وانهاء الحرب.

في القطاع تحقيق أحلام اليمين المتطرف يمر في العملية الأخيرة للجيش الإسرائيلي في مخيم جباليا. ما يعرضه الجيش كجهد لاجتثاث البنى التحتية لحماس التي نمت في هذا المخيم من جديد، يشمل آخر جانب مظلم أكثر، دفع المدنيين نحو الخارج. الهدف النهائي، طبقا لـ “خطة الجنرالات” التي ينفي الجيش تبنيها، هو اخلاء السكان بالقوة نحو جنوب القطاع، الى خلف ممر نتساريم الذي احتله الجيش الإسرائيلي في بداية الحرب. حتى الآن السكان الفلسطينيين يرفضون التعاون مع هذه التهديدات.

نتنياهو، في لقائه في هذا الأسبوع مع وزير الخارجية الأمريكي، وعد الضيف بأنه لا توجد أي عملية كهذه. عمليا، بما عرض كأمر بالصدفة، شوشت إسرائيل خلال أيام طويلة ادخال أي مساعدات إنسانية الى المنطقة من اجل جعل السكان الفلسطينيين يخرجون. وفقط بضغط كبير من أمريكا تم استئناف ادخال المساعدات بشكل جزئي.

قبل 14 سنة حاولت مجموعة من المتطرفين في الجيش الإسرائيلي القاء على يوآف غالنت، الذي كان في حينه مرشح لرئاسة الأركان، ارتدادات الوثيقة المزورة في قضية هرباز، التي شلت القيادة العليا في جهاز الامن لبضع سنوات. الآن من اجل المفارقة فان بعض المشاركين في هذه القضية يدفعون في قيادة الجنوب خطوات لتطبيق خطة الجنرالات. الفوضى التي هم و”غيرهم” يمكن أن يجروا اليها الدولة والجيش ستكون اكثر خطورة بدرجة لا تقدر من هذه القضية التي نسيت. غالنت، الذي يتولى الآن منصب وزير الدفاع، يمكن أن يجد نفسه متورط بشكل اكبر في لاهاي بسببها. بالمناسبة، الإجراءات القانونية في المحاكم الدولية تقترب من إعادة التحريك، وربما حتى قبل الانتخابات للرئاسة في الولايات المتحدة.

مع نتنياهو في دور العراب فان الحرب في قطاع غزة تحصل على غطاء ايماني أكثر مما هو استراتيجي. الاحاديث عن النصر المطلق والحرب الخالدة، والآن تغيير حدود القطاع كعقاب للفلسطينيين على مذبحة 7 أكتوبر، ليست احاديث فارغة. يوجد هنا مضمون ديني – أيديولوجي عميق، يستند الى ابعاد زمنية مختلفة وعالم قيم بديل للمنظار الذي رأت إسرائيل الرسمية من خلاله الحروب السابقة. 

هرتسي قال

الشهادة الأخيرة على الحروب الثقافية التي تجري على هامش المعارك العسكرية تم تقديمها عشية العيد، عندما احتج الجيش بشكل رسمي على فيلم دعاية للقناة 14، الذي استهزأ برئيس الأركان. هرتسي هليفي، في صالحه، يصمم على إزالة شعارات تحمل كتابات “مسيحانية” لطائفة حباد، حول الزي العسكري للجنود الذين التقى معهم في جولاته الميدانية. قناة بيبي التي تتفاخر بطرح نفسها بأنها قناة وطنية تجري منذ سنوات معركة لاضعاف الجيش. وهذه المعركة اشتدت بعد المذبحة في الغلاف واضيف اليها هدف هام جديد وهو القاء كل المسؤولية عن المذبحة على جهاز الامن (الذي ذنبه معروف) بهدف تطهير رئيس الحكومة من المسؤولية. هذه هي نفس القناة التي تقوم بتسويق، بلا توقف، لجمهور مشاهديها صورة نصر متخيلة، مع طمس غير مريح للحقائق حول الحرب، وحتى إخفاء الانباء السيئة عن موت الجنود.

تصميم رئيس الأركان هو حالة نادرة نسبيا، فيها هرتسي هليفي يستخدم صلاحياته مع مرؤوسيه في القطاع. عمليا، كما كتب هنا قبل بضعة اشهر، فان هيئة الأركان وقيادة المنطقة الجنوبية يجدون صعوبة في السيطرة على الانضباط العملياتي لدى الجنود. الحديث لا يدور عن حالة شاذة بل عن سياسة، التي في مرات كثيرة تنمو من اسفل – أوامر متساهلة في فتح النار وقتل المدنيين وتدمير البنى التحتية والبيوت، حتى في حالات لا تكون فيها حاجة الى ذلك. انشغال الجيش والشرطة المتردد في قضية التنكيل بالاسرى، وفي اعقاب ذلك اقتحام زعران اليمين المتطرف لقواعد الجيش الإسرائيلي، يعكس التدهور السريع لسلطة القانون والنظام على خلفية الحرب. في بعض الحالات ظهر وكأن الجيش حتى لا يدرك دوره الناشط في هذه الحيونة. بعد موت السنوار علق القادة في رفح لافتة قرب البيت الذي قتل فيه، موجهة لشعب إسرائيل وكتب فيها بأن “كل الجيش الإسرائيلي يتفاخر باعطائكم هدية في العيد رأس الفأر، السنوار”.

هذا السلوك الغريب لوسائل الاعلام المؤيدة لبيبي يندمج مع ظواهر أخرى تثبت لنا أنه بالتأكيد يمكن أن يكون لدينا الامرين: حرب أبدية وأيضا تآكل مستمر للديمقراطية. هذا ما حدث أيضا بعد محاولة اغتيال نتنياهو من قبل حزب الله بواسطة مسيرة ضربت نافذة غرفة نومه في بيته في قيصاريا. اقوال الوزيرة ميري ريغف في جلسة الكابنت وكأن المتظاهرين من كابلان “جاءوا لفعل ما لم ينجح حزب الله في فعله”. اقوال الوزيرة ليست صدفية. من المرجح أنها جاءت بتوقيت مسبق. عائلة نتنياهو ستحاول الحصول من هذه الحادثة ليس فقط على تعويضات مبالغ فيها وبسرعة، بل ستحصل أيضا على طبقة حماية أخرى لمنازلها الكثيرة، وعلى القيود التي سيفرضها الشباك والشرطة على المظاهرات قرب هذه المنازل. اكثر فأكثر إسرائيل تتصرف وكأنها جمهورية موز. لم يكن غائب أيضا مكان عامل آخر في نظام كهذا – عبء كبير على الاقتصاد، الذي سيكون له تأثير سلبي بعيد المدى على الوضع الاقتصادي. 

——————————————–

معاريف 25/10/2024

نخوض حرب عصابات في غزة ولبنان، واذا لم نوقف النزيف لن يتبقى ما نقاتل من اجله

بقلم: ألون بن دافيد

الكثير من القبور الجديدة حفرت منذ دخلت السنة الجديدة. عشرات الشبان قطعت حياتهم وخرب عالم عائلاتهم. بثمن رهيب يحقق الجيش الإسرائيلي الواحد تلو الآخر الأهداف العسكرية للحرب، مع نجاحات استثنائية ويرفع عيونه الى المستوى السياسي بأمل أن يترجمها الى واقع افضل، لكن عبثا. 

بعد سنة من الحرب نجد أن انجازات الجيش الإسرائيلي، الجيش “المنبطح” كما يسميه وزراء الكابنت، هي إنجازات عميقة: جيش حماس في غزة مفكك، حزب الله هو منظمة عسكرية ضعيفة ومضروبة، وطوق النار الذي بنته ايران حول إسرائيل يبدأ بالتفكك. 

من كان يصدق انه في وقت الحرب مع حزب الله سيتمكن معظم سكان البلاد (باستثناء الشمال) من الجلوس بامان في العرش؟ انا بالتأكيد لم اصدق، ومثلي أيضا معظم القيادة الأمنية. هذه هي اللحظة التي كان ينبغي فيها لقيادة الدولة أن تسارع الى قطف اكوام الإنجازات هذه وتحويلها الى سلسلة اتفاقات تضمن واقعا امنيا افضل لمواطني إسرائيل – في الشمال، في الجنوب وفي الوسط. 

لكن رئيس الوزراء، هدية الرب في نظر مؤيديه، وتشرتشل في نظر نفسه، يركز حاليا على حرب الانبعاث خاصته في الاستطلاعات. في ماضيه كان سياسيا موهوبا، لكن في السنوات الأخيرة يتصرف بنيامين نتنياهو كمن يؤمن بانه يوجد تطابق كامل بين مصلحته الشخصية ومصلحة بلاده. يبدو ان إصابة مُسيرة حزب الله للفيلا في قيساريا، عصفور روح العائلة الملكية، شددت فقط هذا الإحساس لديه: مرة أخرى هو وعائلته هما الضحية الحقيقية للحرب.  وكمن يحتاج الى من يعيد الحرارة لروحه، يعقد جلسة وزارية يتنافس فيها المخصيون في عرض أفكار إبداعية عن كيفية الثأر على الشرخ الذي أصاب نافذة سكن الجارة. وهو لم يخيبوا الامل. فقد تفوق الواحد على الاخر في اقتراحات إبداعية لثأر يهز الشرق الأوسط. 

ان ثأر الأذى للبركة الملكية في قيساريا لم يخلقه الشيطان بعد. وقبل أن ندخل جميعنا كي نتلقى ثمن الثأر يجدر بنا أن ننظر الى وضعنا بالجبهات المختلفة لنرى أيضا الفرص التي امامنا. في غزة، التصفية المفاجئة ليحيى السنوار تشق الطريق للتقدم بسرعة الى صفقة تعيد المخطوفين الذين لا يزالون متبقين وتنهي المرحلة الحالية من الحرب، قبل أن تتثبت هناك قيادة جديدة.

أخوه، محمد السنوار، يحمل منذ الان لقب قائد الذراع العسكري لحماس ويحاول الان تثبيت نفسه كزعيم المنظمة في غزة. هو متطرف بقدر لا يقل عن يحيى، لكن يعوزه الحضور الذي كان لاخيه. ضغط شديد على المسؤولين الثلاثة المتبقين في قطر – خليل الحية، خالد مشعل وزاهر جبارين – يمكن أن يؤدي الى صفقة افضل لإسرائيل، تسمح بانتزاع بضع أرواح معذبة متبقية من هناك. 

يمكن ان نواصل المناورة في غزة الى الابد. حتى لو قتلنا 1000 أو 2000 أو 3000 رجل آخر من حماس فهذا لن يغير صورة الوضع العسكرية. بغياب استعداد إسرائيلي للسماح ببديل سلطوي لحماس، قدر لنا خوض حرب عصابات طويلة في غزة. في مثل هذه الحرب التطلع هو لتقليص ارضك الداخلية التي تحتك بالعدو، ان تكون مركزا وان توفر الإصابات والذخيرة. 

نصر “المنبطح”

في الشمال، المناورة البرية كادت منذ الان تفكك تماما الخط المتقدم لحزب الله. صحيح ان المنظمة تنجح في اطلاق مئات الصواريخ كل يوم، لكنها لم تعد حزب الله الذي كانت عليه قبل شهر. فجيشنا الإسرائيلي “المنبطح” ينجح في أن يضرب حزب الله في كل بعد تقريبا، وهناك أيضا نضجت الظروف للتسوية. 

في خطوط التسوية التي قدمتها إسرائيل للامريكيين، يوجد مطلب إسرائيلي للحفاظ على حرية عمل للجيش الإسرائيلي في جنوب لبنان، في حالة ألا تعمل القوة الدولية او الجيش اللبناني ضد تموضع متجدد لحزب الله. هذا طلب معقول في ضوء الإنجازات المتراكمة، ولا يوجد ما يدعو الى التنازل عنه. لكن الاتفاق في لبنان لن يحصل من تلقاء ذاته – إسرائيل ملزمة بان تدفع نحو مفاوضات مكثفة وتجنيد كل الدول التي يمكنها أن تساهم كي يحصل هذا. 

لقد شق الجيش الإسرائيلي الطريق منذ الان وخلق الظروف للتسوية. الضربة المنهاجية هذا الأسبوع للسند الاقتصادي لحزب الله أيضا ستسمح لمراكز قوة أخرى في لبنان دحر حزب الله الى مكان اكثر هامشية في الحياة اللبنانية العامة. لكن هذا يتطلب فعلا سياسيا قاطعا من جانب إسرائيل التي ينشغل وزير خارجيتها في هذه اللحظة في التغريد عن صور الذكاء الاصطناعي بمستوى فتى مراهق. 

وتوجد أيضا ايران. في كل المستويات، السياسية والعسكرية، ثمة قناعة عميقة بانه يجب الرد وبسرعة على هجمة الصواريخ الإيرانية في الأول من أكتوبر. لكن كلما مر الوقت، يبرد الدم وايران تنضج في الانتظار، يمكن البدء بالسؤال اذا كان من الصواب الرد من البطن، ام مثلما في حالة حزب الله – الهجوم حين نكون جاهزين والظروف في صالحنا. 

ايران ستكون هناك دوما. قبل وبعد الهجوم. دولة 90 مليون نسمة، تقع على مساحة هائلة من 1.6 مليون كيلو متر مربع. ليس لدينا القدرة على ان نستبدل فيها النظام او أن نصفي برنامجها النووي. في الماضي اسميناها دولة “دائرة ثالثة”، اما اليوم فهي دائرة أولى، ونحن في مواجهة مباشرة معها، رغم المسافة.

في سلاح الجو توجد قدرة ذات مغزى لضرب مقدرات عسكرية إيرانية، مقدرات حكم وبنى تحتية مدنية. لكن سلاح الجو لا يعرف كيف يأخذ من ايران العلم النووي الذي راكمته أو ان يهزمها. وعليه، ففي هذه النقطة الزمنية على إسرائيل أن تسأل نفسها أي عمل سيخدمها حاليا على خلق مستقبل افضل. 

إسرائيل، التي دخلت الى السنة الثانية من الحرب مع سلسلة إنجازات عسكرية، تنزف من كل الاتجاهات: في المصابين، ما يشعر به على جلدتهم 5 في المئة فقط من الجمهور الإسرائيلي الذي يخدم في الجيش، في الاقتصاد المنهار تحت وزير مالية مسيحاني وفي العقول والكفاءات الذين يتركونها باعداد مخيفة. 

ان سلسلة النجاحات الإسرائيلية منذ الفشل الذريع في 7 أكتوبر تستند كلها الى الأقلية الإسرائيلية التي تخدم، تساهم، تنتج وتفكر. الحرب الأبدية – التي ستحبط كل تحقيق وبحث – التي يتطلع اليها رئيس الوزراء، ستسحق هذا القطاع وهذا التفوق النسبي لنا على اعدائنا. 

بعد سنة من المذبحة على إسرائيل أن تعيد سكان الجنوب والشمال الى بيوتهم، لكن بقدر لا يقل أهمية: ان تعود لتكون دولة خير العيش فيها. نعم، قدر لنا أن نخوض حرب عصابات متواصلة حيال غزة وربما أيضا حيال لبنان، لكن اذا لم نوقف النزيف – فلن يتبقى لنا على ما نقاتل من اجله.

——————————————–

هآرتس 25/10/2024

الإنجازات العسكرية والقتلى لن تحقق لإسرائيل الشعور بالانتصار

بقلم: كارولينا ليندسمان

“هكذا هو الامر في الحرب”، هكذا برروا من طلب منهم تبرير الإبادة الجماعية في قطاع غزة، والاضرار الشديد بالمدنيين، بما في ذلك النساء والأطفال والشيوخ، والتدمير الكامل. ومثل مفهوم السياق هكذا أيضا “هكذا هو الامر في الحرب” هو ترف محفوظ لإسرائيل فقط. ومن سيتجرأ على القول بأن الاعمال التي ارتكبتها حماس في 7 أكتوبر “هكذا هو الامر في الحرب” ستتم ادانته بالخيانة، ليس أقل من ذلك. 

إن إخفاء صور الدمار المطلق الذي ترتكبه إسرائيل في غزة عن عيون الجمهور الإسرائيلي، وحظر التحدث عن الموضوع بشكل علني، هو الوجه الثاني لقطعة النقد الثقيلة والمتعمدة في الصور والرسوم البيانية لما فعلته لنا حماس في 7 أكتوبر. في الوقت الذي فيه الإسرائيليون لا يبالون بتدمير غزة فانهم ينشغلون اكثر فأكثر بشهادات الضحايا.

الضحايا انفسهم بالتحديد يظهرون مناعة شخصية مثيرة للتقدير. فالعجائز اللواتي رجعن من الأسر يقفن بصمود اكثر من المذيعين في الاستوديوهات الذين يجرون المقابلات معهن. لا يمكن تجاهل استعداد المجتمع اليهودي للاستسلام لموقف الضحية. إسرائيل تعمل منذ اكثر من سنة في اطار يوم الكارثة. الصور والشهادات من 7 أكتوبر حلت مكان بنك الاوصاف للمعسكرات وشهادات الناجين. ولكن الموسيقى التصويرية هي نفسها، وكذلك أيضا النية العاطفية. فهي لم تتلاشى بل العكس، هي آخذة في الازدياد.

منذ اكثر من سنة ونحن نحاول بجهد المعرفة. لقد اصبحنا مدمنين على وصف ما فعلوه أو أرادوا فعله أو ما كان يمكنهم فعله للمخطوفات (خيالنا لا يبالي بهذه الفروقات). نحن نصمم على المقارنة بين الحريق في الغرفة الآمنة وبين الموت في غرف الغاز، بين أطفال الغلاف الذين اختبأوا في الخزانات وبين آنا فرانك – رغم أنه يصعب التفكير بأحداث تاريخية مختلفة عن بعضها في جوهرها وسياقها الشامل – الكارثة مقارنة بـ 7 أكتوبر. إشارة اولى: توجد لنا دولة. واشارة ثانية: نحن دولة عظمى عسكريا. إشارة ثالثة: المفاعل في ديمونة. إشارة رابعة: النزاع بين إسرائيل والفلسطينيين.

لو أن التصرف الجماعي المذكور أعلاه كان بمثابة الشفقة على الذات، فليكن. وحتى لو أن ذلك لم يكن صحيا، لكان يمكن استيعاب يوم الكارثة هذا الذي لا ينتهي. ولكن بينما نحن نستسلم للضحايا – فانه من خلال جيش الدفاع الإسرائيلي هاجمنا بكل القوة وضربنا مصاص الدماء في وجوهه وثقبنا جسده بالرصاص، رغم أنه مات بيدنا منذ زمن طويل.

لو أن هذا كان فيلم لكان أحد الأصدقاء سيوقف يدنا ويربت على كتفنا ويوقظنا بشدة ويصرخ بصوت مرتفع كي يخرجنا من حالة النشوة التي دخلنا اليها: “كفى، لقد مات”. ماذا تقول الاغنية؟ “يا للهول، لم أقل ما يكفي”. إسرائيل لا تنجح ويبدو أنها لن تنجح في أي يوم في قول كفى، والوصول بقوتها الذاتية الى الاستنتاج بأن هذا هو الوقت المناسب للتوقف. وحقيقة أنها عازمة على مواصلة الحرب، وحتى توسيعها نحو ايران بعد موت يحيى السنوار مهندس 7 أكتوبر والعدو المثالي لنا، تعزز الشعور بأن إسرائيل لا تمتلك القوة الداخلية المطلوبة لوقف نفسها. فهي لا تعرف كيف تتوقف. وهي تقول: “يا للهول، لم أقتل بعد ما يكفي”.

أنا كتبت ذات يوم بأنه ليس هناك أي كمية من الطعام يمكن أن تشبع الخائف. إسرائيل تحارب الآن وكأنها شخص لا يعرف الشبع ويحركه القلق، بالتالي، فان أي قدر من الإنجازات العسكرية والقتلى لن يحقق لها الشعور بالانتصار. وفي نفس الوقت فانه ينشط آلية ثابتة لخلق القلق من نوع المنتج الذي تنتجه “يد واسم”، هذا مزيج خطير. واذا لم يقوموا بوقفها فهي ستهزم نفسها بدماء الفلسطينيين.

——————————————–

إسرائيل اليوم 25/10/2024

على إسرائيل أن تفكر بخيارات أخرى للرد على ايران

بقلم: يوسي بيلين

لا يمكن لاي دولة سيادية أن تمر مرور الكرام على هجوم الصواريخ الإيرانية. عدم الرد سيعد كتخوف من الرد او كعدم قدرة حقيقية على ضرب ايران بشكل ذي مغزى دون الانجرار الى حرب جوج وماجوج التي في الحكومة بضعة وزراء يتمنونها. 

لكن الرد الإسرائيلي متوقع جدا، والجدال (منشآت النووي، البنى التحتية او رموز الحكم)، يجري منذ الان في الأسابيع الأخيرة في كل برلمان يوم جمعة يحترم نفسه. السؤال التالي الذي يُسأل في كل البرلمانات، ماذا سيكون الرد الإيراني المضاد وكم سيؤلمنا وكم سيكلفنا.

إسرائيل تسير نحو فعل معروف مسبقا ورد متوقع ومهدد. ردها سيكون ذكيا بحيث أن العارفون فقط سيعرفون كم سيضر الانذال حقا. ويمكنه أن يضرب بحيث يعرف كل طفل بالضبط كم ستكون سيئة اصابتنا. 

العالم لن يتذكر في أي مرحلة بتنا نعيش في كتاب الحسابات وسيرى في كل ضحية – طفل، امرأة أو شيخ، مواطنا بريئا قصدته الوحشية الإسرائيلية بالذات ووجهت الى رأسه صواريخنا الدقيقة جدا. الدائرة الجديدة التي نجد انفسنا فيها منذ 13 نيسان والتي روينا فيها لانفسنا اننا لن نجد انفسنا فيها لان ايران ستفضل دوما أن ترسل الينا وكلاءها وان ترفع العتب ستكون باهظة جدا بالدم والدماء، طويلة جدا وخطيرة. 

قبل ان ننضم بعيون مفتوحة الى دائرة أخرى من حرب اللاخيار، علينا أن نجد البدائل. ايران آيات الله لا تريد السلام مع إسرائيل، ليست مستعدة لان تعترف بوجودها ومعنية بان ترى اختفاءها. تماما مثل وكلائها، من حماس عبر الحوثيين وحتى حزب الله والميليشيات العراقية. لكن محفلا رفيعا جدا في منطقتنا سألني مؤخرا اذا كانت إسرائيل مستعدة لان تفكر بحوار غير مباشر مع ايران. قلت له اني شخصيا في شك كبير ان يكون هناك احد يمكن الحديث معه في أي شيء. ولن تحاول الوصول معهم الى حل وسط، تذهب فيه نصف الدولة اليهودية فقط الى الجحيم… اضفت بان من نجح في اقناع ترامب بإخراج الولايات المتحدة من الاتفاق مع ايران سيصعب عليه ان يجري بنفسه مثل هذا الاتصال او غيره معها. 

لم يكن لمن حادثني كلمات طيبة عن النظام الإيراني. عرض عليه التحديات الصعبة التي يقف امامها النظام. اقترح الا نستخف بذكاء بعض ممن يوجهون ايران اليوم، أضاف بان الشارع الفارسي هو التهديد الأكبر على آيات الله، وان الشارع يعاني، تواق للتغيير، يبحث عن أسباب للاضطراب وكفيل بان ينجح. 

قال المتحدث ان ثمة مواضيع غير قليلة يمكن لإسرائيل وايران ان تتحدث فيها – من السؤال القديم عن أنبوب النفط الذي بقي مفتوحا منذ 1979 ويزعج الإيرانيين وحتى مسألة الوكلاء وصدهم من خلال رأس الافعى. الولايات المتحدة هامة جدا لإيران، وإسرائيل تثبت المرة تلو الأخرى قربها الخاص من القوة العظمى الكبرى. توجد لهذه أهمية في نظر آيات الله وإسرائيل لا تستغل هذا وربما حتى غير واعية لهذا السياق.

يتفق معي أن من حق إسرائيل أن ترد على الهجمات الإيرانية ومرغوب فيه أن يكون الرد على نحو يمنع ردودا عنيفة وقاسية – لكن يبدو انه لا يوجد شيء كهذا ولعله يكون اكثر نجاعة محاولة الرد من نوع آخر. في الميزان بين إسرائيل وايران دورنا ان نقوم بالخطوة التالية في لعبة الشطرنج التي اخترعها الفارسيون. هذه فرصة، وكل ما يصلي الإيرانيون له هو الا يكون الرد واحدا من تلك الردود التي تبحث في برلمانات يوم الجمعة. على حد قوله، فان بلادها ستكون مستعدة لان تكون وسيطا، وهي لن تكون الوحيدة تحت تصرف إسرائيل اذا تقرر تأخير الرد العنيف والعمل بشكل معاكس. الفرصة ليست كبيرة لكن الخيار الثاني يمكن أن يؤدي الى طريق مسدود.

——————————————–

جندي احتياط إسرائيلي: ما يجري في غزة انتقام خالص.. “قيل لي إن قتل الأطفال واجب ديني”

باريس- القدس العربي 25/10/2024

في مقابلة خصّا بها صحيفة “لوموند” الفرنسية، اعتبر اثنان من جنود الاحتياط الإسرائيليين الشباب، قررا التوقف عن الخدمة في وحدتهما، أن ما يحصل في غزة “ليس حرباً وجودية، بل هو انتقامٌ خالص”.

الأول، يدعى ماكس فريش، وهو يهودي أمريكي ملحد، ولكن من عائلة متدينة، انتقل إلى إسرائيل في عام 2014 وهو في سن 18 عاما. والثاني مايكل عوفر زيف، ولد في عائلة يسارية ملتزمة بحل الدولتين. واستجاب الاثنان بنفس الروح لنداء الجيش الإسرائيلي الذي حشد أكثر من 300 ألف جندي احتياط في أعقاب هجوم السابع من أكتوبر.

لكن الجنديين نأيا تدريجيا بنفسيْهما عن أوامر الحكومة الأكثر تطرفا في تاريخ إسرائيل، كما توضّح “لوموند”، مشيرة إلى أنّهما من بين 130 من جنود الاحتياط الذين وقّعوا على رسالة نُشرت في 10 أكتوبر/ تشرين الأول، يرفضون فيها الخدمة حتى يتوصل مكتب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى اتفاق لوقف إطلاق النار يسمح بإطلاق سراح الإسرائيليين المحتجزين في غزة.

في يوم 12 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، عندما خلّف القصف الانتقامي على غزة مئات القتلى، معظمهم من المدنيين، كتب أحد الجنديين الاحتياطيين السابقين، ماكس فريش، على صفحته في فيسبوك: “الآن حان الوقت لاحتضان أصدقائنا العرب والفلسطينيين”. وقد انتشرت هذه الرسالة على الفور في وحدته، ليتحول هذا الأخير إلى منبوذ، كما يروي لـ“لوموند”، مضيفا: “قيل لي إن قتل الأطفال واجب ديني، لأنهم عندما يكبرون سيصبحون إرهابيين. هذه الحالة الذهنية تحدد كل ما يحدث اليوم. وهذا غير مقبول”.

ويتابع ماكس فريش التوضيح لـ“لوموند” أنه أراد دائما، خلال عشر سنوات من العيش في إسرائيل، خدمة بلاده بطريقة مثالية، ولأنه يشعر أن حكومته لا تفي بواجباتها، فقد قرر عدم الاستجابة لأوامر التعبئة. مضيفا: “لقد فهمت أنها لم تكن حرباً وجودية، بل كانت انتقاما خالصا”.

ويتابع القول: “العقد الاجتماعي الذي يربطني بهذا البلد هو أنني أقاتل من أجله، وفي المقابل يفعل كل شيء لإعادة الرهائن. لقد تم كسر هذا العقد الاجتماعي. أقوم بدوري، لكن الحكومة لا تقوم بدورها”، يوضح الجندي الذي أبلغ قائده أنه في هذا السياق، لن يخدم بعد الآن تحت العلم الإسرائيلي. وعندما تم استدعاؤه في الأول من تشرين الأول/ أكتوبر 2024، بعد تصفية حسن نصر الله، زعيم حزب الله، قال لا، وقرر مغادرة مجموعة الواتساب الخاصة بوحدته.

أما زميله مايكل عوفر زيف، فقد خدم في غرفة القيادة كضابط “مراقبة” وكان دوره يتمثل في متابعة تحركات القوات في غزة على شاشات تفاعلية، وخاصة لتجنب إطلاق النار بين الجنود الإسرائيلين. وكان يظل محبوسا لساعات طويلة في غرفة، محروماً من هاتفه، مفضلا تجنب التواصل مع زملائه، لكونه يساريا، وانغمس في التفكير بتدمير غزة، كما يروي للصحيفة الفرنسية.

ويضيف: “رأيت المباني تنفجر الواحد تلو الآخر.. كان الأمر بالأبيض والأسود، ولم يكن هناك صوت، وبدا غير واقعي تقريبا. اعتقدت أن هناك بعض المعلومات الاستخبارية القوية وراء ذلك. لكن شيئا فشيئا، ومن خلال مشاهدتي للقنوات التلفزيونية الأجنبية وشبكات التواصل الاجتماعي بعد خروجي من غرفة المراقبة، فهمت عواقب هذه الضربات”.

بالنسبة لجندي الاحتياط الشاب هذا، جاءت نقطة التحول في ديسمبر/ كانون الأول 2023، عندما قُتل ثلاثة أسرى إسرائيليين فرّوا من خاطفيهم، برصاص قناص إسرائيلي، عندما اقتربوا من الجنود، عراة القمصان، وأيديهم مرفوعة في الهواء لإظهار أنهم غير مسلحين. حتى أن أحدهم لوح بقطعة قماش بيضاء.

وتحدث هذا الأخير عن “فساد أخلاقي”، قائلاً إنه تبادرت إلى ذهنه فكرتان: الأولى، أنه كان لا بد من حدوث ذلك، نظراً للطريقة التي أدرنا بها القتال في غزة. ولم ير ميخائيل عوفر زيف وثيقة متداولة بشأن قواعد الاشتباك، والتي كان ينبغي له نظرا لمنصبه، الوصول إليها.

ويتابع القول: “في أذهان الكثير من الناس بعد 7 أكتوبر، لم يعد الفلسطينيون مجرد بشر. ويعتقد أن هذا المناخ لا يشجع الضباط على معاقبة جنودهم، خاصة عندما يقومون بنهب أو تخريب الممتلكات الفلسطينية. النظام الذي كان من المفترض أن يعاقب أولئك الذين يرتكبون الأخطاء لم يعد يستجيب”.

وبعد ثلاثة أشهر في الاحتياط، وعلى غرار زميله ماكس فريش، أبلغ مايكل عوفر زيف قائده بأنه لن يعود إلى وحدته. ووقّع على خطاب رفض الخدمة في أبريل/ نيسان. ويوضح لـ“لوموند”: “كنا 42 شخصا، والآن أصبحنا 130، ورفض الخدمة هو أحد أكبر المحظورات في إسرائيل. أخشى أن ينظر الناس إلينا جميعا كوحوش متعطشة للدماء. هذا هو الحال بالنسبة للبعض. ولكن ليس بالنسبة لكثير من الإسرائيليين”.

عندما يريد أن يكون إيجابيا، يتذكر مايكل عوفر زيف أن حرب 1973 أدت إلى السلام مع مصر، وهذا أحد أفضل الأشياء التي حدثت بالنسبة له. ولكن بعد ذلك مباشرة، أدرك أن إسرائيل تغيرت منذ ذلك الوقت. ثم يتغلب عليه اليأس ويقول لنفسه إنه يجب أن يحزم حقائبه. كما أن زميله ماكس فريش يمر بالحالة الذهنية نفسها، فهو يفكر أيضا في مغادرة بلاده، مع خطر التخلي عنها للأصوات الأكثر تطرفا.

——————————————–

مفارقة الهزيمة الإسرائيلية: كيف يؤدي النجاح العسكري إلى فشل سياسي

ألوف بن* – (إندبندنت) 2024/10/10

ألوف بن: رئيس تحرير صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية.

مترجم عن “فورين أفيرز” حيث نشر في 4 تشرين الأول (أكتوبر) 2024.

خلال السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، فاجأت حركة “حماس” الجهازين العسكري والاستخباراتي الإسرائيليين المعروفين بكفاءتهما. وكان كلاهما على علم منذ أعوام بالتحضيرات التي تقوم بها الجماعة المسلحة الفلسطينية لغزو إسرائيل وقتل جنودها ومواطنيها واختطافهم. لكنهما لم يتمكنا من تصديق أن الجماعة قد تجرؤ أو تنجح في تنفيذ مثل هذه العملية غير المسبوقة. كان الجيش الإسرائيلي والأجهزة الاستخباراتية ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والجمهور الإسرائيلي الأوسع، يعتقدون جميعاً أن الحدود الجنوبية المحصنة لبلدهم منيعة للغاية، وأن ميزان القوى في صالح إسرائيل لدرجة أن “حماس” لن تفكر مطلقاً بتحدي الوضع القائم.

لكن “حماس” تحدت ذلك الوضع. وخلال الأيام والأسابيع التي أعقبت هجومها المدمر، أصبحت عبارة “كل شيء تغير” شائعة ومتداولة بين الإسرائيليين. ولفترة من الوقت بدا وكأن كل شيء تغير بالفعل، إذ حطم الهجوم ثقة الإسرائيليين الجوهرية بأنفسهم، وقلب معتقدات قديمة حول أمن البلاد وسياساتها ومعاييرها المجتمعية رأساً على عقب. فقد فقدت قيادة الجيش الإسرائيلي هيبتها بين ليلة وضحاها تقريباً مع ظهور تفاصيل عن فشلها في منع الهجوم، ثم وصولها متأخرة للغاية لإنقاذ المجتمعات الحدودية والمواقع العسكرية والأشخاص العزل الذين كانوا حاضرين في مهرجان موسيقي.

نتيجة لذلك، تلاشت الدراما السياسية التي سيطرت على إسرائيل خلال الأشهر التسعة السابقة للسابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، مثل محاولة نتنياهو إجراء إصلاح شامل للقضاء بهدف الحد من استقلالية مؤسسات الدولة، مثل المحكمة العليا ومكتب المدعي العام والخدمة المدنية التكنوقراطية، من أجل تحويل مزيد من السلطة لحلفائه اليمينيين والمتدينين. وتوارى المهندس الرئيس للإصلاح، وزير العدل ياريف ليفين، عن الأنظار تقريباً، ربما بسبب شعوره بالذنب لأنه أسهم في تشتيت انتباه إسرائيل قبل هجوم “حماس”. وشكل نتنياهو حكومة حرب موحدة تمثل فصائل سياسية مختلفة عادة ما تكون متعارضة بشدة. وفي غضون أيام، استدعى نحو 250 ألف جندي احتياط لشن هجوم مضاد على غزة.

بعد تجاوز الصدمة الأولى، شنت قوات الدفاع الإسرائيلية رداً انتقامياً مدمراً. وبعد تكليفها بتفكيك قدرات “حماس” العسكرية والإدارية، حولت مساحات شاسعة من غزة إلى ركام، وجعلت نحو مليوني نسمة من سكان غزة نازحين داخليين، وقتلت أكثر من 40 ألف فلسطيني ثلثهم تقريباً من مقاتلي “حماس” وفقاً للتقييمات الإسرائيلية الرسمية. ونجحت القوات الإسرائيلية، بصورة فعالة، في إيقاف “حماس” عن إطلاق الصواريخ على إسرائيل وهدمت جزءاً كبيراً من شبكة الأنفاق التابعة لها في غزة، وتقول إنها تمكنت من تفكيك الجماعة التي كانت منظمة جيداً في السابق، فحولتها إلى فرق مبعثرة من المقاتلين المسلحين.

ولكن حتى مع احتلال الجيش الإسرائيلي نحو ثلث أراضي غزة، يشعر العديد من الإسرائيليين بأن الوضع الحالي شبيه بالهزيمة. وعلى الرغم من التعبئة الكاملة والدعم شبه الثابت من الحكومة الأميركية، لم يتمكن الجيش الإسرائيلي الذي ما يزال تحت القيادة نفسها منذ “السابع من تشرين الأول (أكتوبر)” من تحقيق النصر. وفي المقابل لم يستسلم زعيم “حماس”، يحيى السنوار، وهناك نحو 100 من الرهائن الإسرائيليين مفقودون في غزة، نصفهم تقريباً ما يزالون على قيد الحياة، وفقاً لتصريحات نتنياهو العلنية.

إن هذا الجمود الكارثي، والعزلة العالمية المتزايدة التي تعيشها إسرائيل، والتوقعات الاقتصادية المتشائمة أكثر فأكثر تسهم في خلق شعور وطني باليأس والإحباط. ومن المفارقة أن بعض الجوانب المهمة في السياسة والمجتمع الإسرائيليين لم تشهد في الواقع تغييرات ملحوظة مباشرة بعد الهجوم الذي نفذته “حماس”. فما يزال مواطنو المجتمعات الحدودية في الشمال والجنوب غير قادرين على العودة إلى منازلهم. وبدلاً من توحيد الإسرائيليين اليهود ضد عدو خارجي مشترك، أدت معركة إسرائيل متعددة الجبهات ضد أعدائها الخارجيين إلى توسيع الانقسامات الاجتماعية والسياسية التي كانت موجودة سابقاً بين معارضي نتنياهو وأنصاره. ومتجاوزاً توقعات خصومه وحلفائه على حد سواء، يواصل نتنياهو العمل كمركز ثقل في السياسة الإسرائيلية. أما الائتلاف اليميني الذي يبقيه في السلطة، فقد كثف من مساعيه إلى سحق حركة إقامة الدولة الفلسطينية و”استبدال النخبة الإسرائيلية”، وهو تعبير ملطف لتدمير المؤسسات الديمقراطية والليبرالية في إسرائيل.

ثم خلال 17 أيلول (سبتمبر) الماضي، بدأت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية في شن سلسلة من الهجمات المضادة الجريئة على نحو متزايد ضد أشرس خصومها المجاورين، ميليشيات “حزب الله” اللبنانية، التي فتحت جبهة ثانية ضد إسرائيل في الشمال بعد يوم واحد من هجوم “حماس” في الجنوب. واغتالت إسرائيل حسن نصر الله، الذي كان زعيماً لـ”حزب الله” منذ فترة طويلة، وشنت هجوماً برياً على جنوب لبنان. وصورت معظم وسائل الإعلام الإسرائيلية الأعمال العدائية المتوسعة في شمال إسرائيل على أنها فرصة -ليس لسحق “حزب الله” فحسب، بل أيضاً كوسيلة لتثبت البلاد لنفسها أنها تجاوزت أخيراً عامها المرعب المليء بالصدمات والضعف، وأنها أصبحت مجدداً تلك الدولة المعروفة بذكائها وقوتها وتفوقها التكنولوجي وذات السمعة العالمية المرموقة. ولكن، مثلما فشلت الحرب في غزة في تحقيق التغييرات التي توقعها الإسرائيليون بشأن الحقائق الأساسية المقلقة في بلادهم، فإن هذه الجبهة الجديدة لن تجلب تغييرات كبيرة، ما لم تتبن إسرائيل التعديلات الأعمق التي يجب أن تجريها في سياستها تجاه الفلسطينيين وفي سياستها الداخلية.

حركة متناقضة

بعد أسبوع من هجوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، لو أخبرت إسرائيلياً عادياً حتى من أنصار نتنياهو أن “بيبي” سيظل رئيساً للوزراء بعد عام، وأن سلطته ستظل مدعومة من الائتلاف اليميني نفسه، لما كان سيصدقك. طوال تاريخ إسرائيل في أعقاب أسوأ الكوارث الأمنية التي مرت بها البلاد، كانت الحكومة المدنية تسقط في النهاية. بعد إخفاقات الجيش خلال حرب يوم الغفران (حرب أكتوبر) في العام 1973 وغزو لبنان في العام 1982، عاد جنود الاحتياط الغاضبون من الجبهة للاحتجاج، وأجبروا رئيسي الوزراء غولدا مائير ومناحيم بيغن على الاستقالة. وفي كلتا الحالتين، في غضون أشهر، أطلقت الحكومة تحقيقات واسعة النطاق حول ما حدث من أخطاء.

كان من المنطقي تخيل أن يواجه نتنياهو مصيراً أسوأ. فعلى مدار عقود من الزمان في السياسة، قدم نفسه على أنه “سيد الأمن”، وادعى أنه يفهم كيف يحافظ على أمن البلاد بصورة أفضل من الجنرالات الإسرائيليين الذين اعتبرهم جبناء، وغير مبدعين ويولون اهتماماً مفرطاً لرغبات الولايات المتحدة. وكان أشد خصومه السياسيين من القادة العسكريين السابقين الذين شغلوا أيضاً منصبي رئيس وزراء إسرائيل أو وزير الدفاع، أمثال إسحاق رابين وإيهود باراك وأرييل شارون وبيني غانتس ويوآف غالانت وزير الدفاع الحالي. وتقليدياً كانت أعلى المراتب في الجيش الإسرائيلي وأجهزة الاستخبارات تحتلها مجموعة من اليهود الأشكناز الليبراليين، وهي المؤسسة التي تعهد نتنياهو منذ فترة طويلة بالاستيلاء عليها. وكانت هذه المؤسسة هي التي قادت الانتفاضة الشعبية ضد اقتراح نتنياهو في أوائل العام 2023 لإعادة هيكلة القضاء الإسرائيلي.

مع ذلك، ربما يمثل استمرار نتنياهو في السلطة أكبر قطيعة مع الوضع الراهن في تاريخ إسرائيل خلال العام الماضي. فحتى يومنا هذا، رفض نتنياهو الاعتراف بأي مسؤولية عن مقتل 1.200 إسرائيلي واغتصاب وإصابة عدد من الآخرين واختطاف 250 رهينة، والتدمير الشامل في يوم واحد لمجتمعات حدودية مزدهرة وإخلاء المجتمعات في شمال إسرائيل الذي تلا ذلك. وقد انهارت معدلات تأييد نتنياهو أواخر العام 2023. وعلى الرغم من أنها تحسنت بصورة مطردة منذ ذلك الحين، فإن شعبيته ما تزال متأخرة مقارنة بشخصيات المعارضة مثل رئيس الوزراء السابق نفتالي بينيت. وبعد اغتيال نصر الله، أظهر استطلاع للرأي أجرته “كيشت 12″؛ القناة الإخبارية الرئيسة في إسرائيل، أنه إذا أجريت انتخابات داخل إسرائيل اليوم، فإن ائتلاف نتنياهو الذي يشغل حالياً 68 مقعداً في الكنيست لن يفوز إلا بـ46 مقعداً. وباعتباره قارئاً شغوفاً لاستطلاعات الرأي، يدرك نتنياهو أن الجمهور الإسرائيلي غاضب، وقد سعى إلى اتباع استراتيجية متعددة الأوجه للبقاء في السلطة. فعلى مدى العام، أصر نتنياهو ومؤيدوه على أن اللوم في أحداث السابع من تشرين الأول (أكتوبر) يقع بالكامل على الجيش الإسرائيلي وجهاز الأمن الداخلي (شين بيت) المكلف مراقبة الفلسطينيين، فضلاً عن الإسرائيليين الذين احتجوا على جهوده لإصلاح القضاء، وبخاصة جنود الاحتياط الذين هددوا بعدم القيام بواجباتهم التطوعية.

من خلال تنصله من المسؤولية والمناورة بعناية للحفاظ على كتلته السياسية، ربما تمكن نتنياهو من تجنب تحقيق مدمر حول سياسته للتعايش مع “حماس” وتجاهله المتكرر للتحذيرات التي قدمها الجيش وأجهزة الاستخبارات بشأن هجوم وشيك على إسرائيل، وجهوده الرامية إلى تقويض السلطة الفلسطينية شريكة السلام السابقة لإسرائيل. وخوفاً من الهزيمة في صناديق الاقتراع والسعي إلى إيجاد طريقة لتأجيل محاكمته الجارية بتهمة الفساد، تمكن نتنياهو أيضاً من تفادي إجراء انتخابات مبكرة. وكان أحد العناصر الرئيسة لاستراتيجيته هو إطالة أمد الحرب في غزة وتوسيعها إلى لبنان، وتجنب التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار مع “حماس” حتى على حساب التخلي عن الرهائن المتبقين في غزة، الذين يتعرضون للتعذيب والتجويع والقتل في الأنفاق المتبقية في غزة.

ومن أجل حماية نفسه، تنازل نتنياهو عن قدر هائل من السلطة لرفاقه في الائتلاف اليميني المتطرف، الذين يعارضون بشدة أي صفقة لتبادل الرهائن تتطلب انسحاب إسرائيل من غزة أو إطلاق سراح المقاتلين الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية. وهذا أيضاً يمثل تغييراً بمقدار 180 درجة في الموقف الوطني. فكثيراً ما تفاخر الإسرائيليون باستعدادهم لبذل كل ما في وسعهم لإعادة الرهائن والأسرى إلى الوطن، مثلما اتضح في عملية الجيش الإسرائيلي في العام 1976 في عنتيبي بأوغندا لإنقاذ ركاب طائرة الخطوط الجوية الفرنسية المخطوفة المتجهة من تل أبيب إلى باريس، وهي عملية جريئة ضحى خلالها شقيق نتنياهو الأكبر؛ يوني (يوناتان) بحياته. وقبل خمسة أعوام، سافر رئيس الوزراء إلى موسكو وتفاوض شخصياً مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للإفراج عن امرأة إسرائيلية شابة احتجزت بتهمة الاتجار بالمخدرات. لكنه لم يفعل الشيء نفسه من أجل الرهائن الذين اختطفوا خلال السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023.

كما شجعت مكانة نتنياهو السياسية الهشة أعضاء ائتلافه على تعزيز أجنداتهم بصورة أكثر حزماً. ومع إدراكهم لحرصه على الحفاظ على السلطة، دفعوا باتجاه اتخاذ تدابير مثيرة للجدل، مثل إعادة بناء المستوطنات اليهودية داخل قطاع غزة التي تنازل عنها شارون في العام 2005. وعلى الرغم من أن نتنياهو يرفض الفكرة في العلن، فإنه يميل لأن يصبح أول زعيم إسرائيلي يوسع مطالبة إسرائيل بضم الأراضي الفلسطينية بعد عقود من الانسحاب منها. وخلال الأسابيع الأخيرة، عاد ياريف ليفين، وزير العدل، إلى الأضواء مجدداً لاستئناف مساعيه من أجل إصلاح القضاء، متجاوزاً العملية التشريعية لمتابعة التغييرات القضائية من خلال الوسائل البيروقراطية، متحدياً المشورة القانونية من المستشارة القضائية للحكومة جالي باهراف ميارا. 

خلال الأعوام التي سبقت السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، كان بعض القادة الإسرائيليين العرب يبذلون جهوداً ناجحة لدمج المواطنين الفلسطينيين في المجتمع الإسرائيلي من خلال تأمين حقوق متساوية وفرص اقتصادية أكبر. وفي أعقاب هجوم “حماس”، تراجعت الحكومة عن هذه الحملة من خلال اعتقال المواطنين العرب وإدانتهم بسبب منشوراتهم على وسائل التواصل الاجتماعي ومنع التظاهرات العربية المناهضة للحرب. واتبعت وسائل الإعلام الرئيسة النهج نفسه من خلال تجنب إضافة أصوات عربية إلى برامجها الحوارية والتحليلية المتواصلة. وخلال أقل من عامين، سيطر ائتلاف نتنياهو سياسياً على قوة الشرطة الوطنية وحولها إلى أداة شخصية في يد وزير الأمن القومي اليميني المتطرف الشعبوي في إسرائيل، إيتمار بن غفير، وهو تلميذ الحاخام العنصري مائير كهانا. وشرع بن غفير في شن حملة حرب بيروقراطية؛ فقام بتعيين المقربين منه في المناصب العليا، وترقية ضباط اعتقلوا بصورة غير قانونية أو اعتدوا بعنف على المتظاهرين المناهضين للحكومة، وغض الطرف عن المستوطنين اليهود المتطرفين الذين نفذوا مذابح في القرى الفلسطينية داخل الضفة الغربية، وتجاهل الارتفاع الحاد في الجرائم العنيفة داخل المجتمعات العربية في إسرائيل. وبالنسبة لبن غفير؛ المدافع عن التفوق اليهودي، كلما قل عدد العرب كان ذلك أفضل لليهود.

حتى وقت قريب، كان غالب اليهود الإسرائيليين ينظرون إلى مثل هذه المواقف المتعصبة باعتبارها مشينة. ولكن من خلال عدم معارضتها علناً، عمل نتنياهو على جعلها أمراً طبيعياً. وفي غضون ذلك، يتولى مسؤول آخر من اليمين المتطرف في حكومة نتنياهو، وهو وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، قيادة جهود للاستيلاء على الأراضي في الضفة الغربية وتقويض السلطة الفلسطينية من خلال إفقارها مالياً. وقد أعلن سموتريتش وبن غفير، بوضوح، عن هدفهما المتمثل في الضم الإسرائيلي الكامل للضفة الغربية وزيادة الأمر سوءاً الآن من خلال الاحتلال الرسمي لغزة.

ثمن البقاء في السلطة

إن الحرب المتعددة الجبهات التي تخوضها إسرائيل الآن هي أيضاً حرب داخلية، شنها رئيس الوزراء من أجل تغيير المعايير والسلوكيات. وعلى الرغم من أنه يتشارك مع حلفائه من اليمين في العديد من القناعات الأيديولوجية، وضع نتنياهو نفسه في موقف سياسي أصبح فيه رهينة لهم، وهو الآن يسعى إلى جعل الجمهور الإسرائيلي رهينة أيضاً.

وضع هجوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الإسرائيليين العلمانيين وغيرهم ممن يتماهون مع القيم العالمية والعلمانية والليبرالية على وجه الخصوص في موقف حرج. فعلى مدار العقود الثلاثة التي تلت مؤتمر مدريد في العام 1991 واتفاقيات أوسلو في العام 1993، أصبح هؤلاء الإسرائيليون ينظرون إلى بلادهم باعتبارها جزءاً يفتخر به لا يتجزأ من الغرب، وإلى صراعها مع الفلسطينيين باعتباره مشكلة عالقة يمكن إدارتها والتعايش معها إلى أجل غير مسمى. وكانت إدارة الصراع، مع تعزيز اقتصاد إسرائيل في الوقت نفسه، وتجنب التحركات الكبرى نحو الحرب أو السلام هي الاستراتيجية التي أقنع بها نتنياهو جمهوره بنجاح بعد عودته السياسية في العام 2009. وقد سهلت هذه الاستراتيجية تحالفاً ضمنياً بين رئيس الوزراء وأعضاء النخب الليبرالية في إسرائيل، إلى أن انقلب ضدهم بمحاولته تعديل النظام القضائي. وعلى الرغم من عدم تصويتهم له، فقد استمتعوا بالسخاء المالي الذي وفرته استراتيجيته، واستفادوا بنجاح من مدح إسرائيل باعتبارها “دولة غربية متقدمة” و”الأمة الناشئة” المزدهرة في العالم.

والآن، يواجه الليبراليون الإسرائيليون ضغوطاً مزدوجة تتمثل في الرفض من الغرب التقدمي في الخارج، وشيطنتهم وتهميشهم من أولئك المؤيدين لنتنياهو في الداخل. وعلى الرغم من أن اليهود الإسرائيليين المحافظين والمتدينين يعانون أيضاً من انخفاض قيمة الشيكل وارتفاع التضخم، فإنهم يستطيعون أن يجدوا معنى في مواصلة الحرب، خصوصاً المستوطنين المتشددين الذين يرون أن معارضتهم لانسحاب غزة في العام 2005 أصبحت مبررة، وأن هناك فرصة سانحة لرفع مكانتهم داخل المجتمع الإسرائيلي، وبخاصة في ظل بروزهم داخل القوات المقاتلة في الجيش.

أما الليبراليون الأكثر التزاماً والأكثر تعرضاً للضغط، فقد لجأوا إلى استراتيجيتين من أجل البقاء؛ الأولى هي الهجرة موقتاً على الأقل، أو التقدم بطلب للحصول على جوازات سفر أجنبية على أساس النسب العائلي. وكانت هذه الظاهرة موجودة قبل الحرب في غزة. فمنذ بداية انقلاب نتنياهو القضائي، أصبح الحديث عن الرحيل شائعاً بين الإسرائيليين الأكثر ثراء وتعليماً، وتزايدت حدته مع استمرار الحرب وحكم نتنياهو. ويبدو أن الوجهات الأكثر شعبية هي اليونان والبرتغال وتايلاند، إلى جانب الملاذات التقليدية، مثل لندن ونيويورك. وقد تمكن بعض المهاجرين من الاحتفاظ بوظائفهم داخل إسرائيل، مع بقاء البعض يعملون عن بعد كـ”رحالة رقميين”. 

أما الاستراتيجية الأخرى للبقاء، فتتمثل في التمسك بموقفهم والاستمرار في الاحتجاج ضد نتنياهو وائتلافه، في حين يدعمون النضال العسكري ضد “حماس” و”حزب الله”، ويطالبون بالإفراج عن الرهائن المتبقين. وخلال أواخر آب (أغسطس) الماضي، بلغت أزمة الرهائن ذروة مروعة عندما أقدمت “حماس” على إعدام ستة إسرائيليين في نفق داخل رفح. وفي ظل حالة من الألم والغضب الشديدين بسبب عدم إبرام نتنياهو صفقة لإنقاذ هؤلاء الستة وعدم اعتزامه إتمام مفاوضات للإفراج عن الرهائن المتبقين، خرج مئات الآلاف من الإسرائيليين إلى الشوارع، في أكبر احتجاجات مناهضة للحكومة منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023.

ولكن حتى الآن، فشلت احتجاجات الشوارع في زعزعة أسس ائتلاف نتنياهو. وحظيت التظاهرات بدعم الشخصيات نفسها (ومن بينها غالانت) التي قادت الاحتجاجات ضد إصلاح نتنياهو القضائي، وتجاهلها رئيس الوزراء بعد أن صور المتظاهرين بذكاء بأنهم قوة مسيسة لا تسعى سوى إلى الإطاحة به، وتستخدم الآن محنة الرهائن كذريعة.

يأمل معارضو نتنياهو أن تنفد حظوظه بطريقة ما أو أن تظهر خلافات قديمة بأعجوبة وتتسبب في زلزال مفاجئ. وإحدى نقاط الضغط التي يواجهها نتنياهو هي مسألة الإعفاء من الخدمة العسكرية لليهود المراهقين المتدينين الأرثوذكس (الحريديم). فعلى مدى عقود من الزمان، برر زعماء الحريديم هذا الإعفاء على أساس أن شبابهم في حاجة إلى الحماية من إغراءات الحياة العلمانية التي قد يواجهونها في الثكنات. وكشفت الحرب أخيراً، بصورة واضحة، عن التفاوت القاسي بين الإسرائيليين الحريديم غير المجبرين على الالتحاق بالخدمة العسكرية وبقية الشباب الإسرائيليين، الذين يطلب منهم الآن التضحية بحياتهم من أجل وطنهم.

خلال حزيران (يونيو) الماضي، قضت المحكمة العليا الإسرائيلية بالإجماع بأنه لا يوجد أساس قانوني لإعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية، وأن التجنيد يجب أن يعامل كلتا المجموعتين من الشباب على قدم المساواة. لكن الحكومة ماطلت في تنفيذ هذا الحكم وكان الجيش متردداً في تجنيد الشباب بالقوة. لكن هذه المسألة ستعود إلى الواجهة قريباً عندما يصوت البرلمان الإسرائيلي على موازنة العام المقبل. وقد هدد القادة السياسيون للحريديم بإسقاط الحكومة ما لم تقر الإعفاء من التجنيد الذي يسعون إليه بشدة. ولحماية جانبه الضعيف هذا، استدرج نتنياهو أخيراً منافساً قديماً له، هو وزير العدل الإسرائيلي السابق جدعون ساعر، للانضمام إلى ائتلافه.

جروح ذاتية

على الرغم من احتجاجات الإسرائيليين ضد نتنياهو ودعواتهم لإعادة الرهائن إلى الوطن، وعلى الرغم من أن حكومتهم لم تحقق بعد “النصر الكامل” الذي وعدت به، فإن المشاعر الحقيقية المناهضة للحرب تكاد تكون معدومة في المجتمع اليهودي الإسرائيلي العام. حتى أن الإسرائيليين الذين يكرهون نتنياهو وقاعدته المحافظة اجتماعياً، الفخورين بعالميتهم وإيمانهم بالديمقراطية العلمانية لن يتبنوا مطلقاً ما يعتبرونه قيماً سلمية نادى بها الأميركيون والأوروبيون الليبراليون بعد الحرب العالمية الثانية. وهم يفضلون العيش وفقاً لشعار اشتهر في فيلم الويسترن “الطيب والشرير والقبيح” الذي أنتج في العام 1966، وأصبح كليشيهاً راسخاً في الخطاب الإسرائيلي “عندما تحتاج إلى إطلاق النار، أطلق النار ولا تتحدث”. كثيراً ما برر الإسرائيليون هذه الفلسفة العدوانية بالإشارة إلى وجودهم في محيط خطر. وفي لغة المستشرقين، شبه (رئيس الوزراء السابق) إيهود باراك هذا الوضع بـ”فيلا وسط الغابة”.

لا يسعى أغلب منتقدي نتنياهو الأكثر شراسة، بمن فيهم كبار الضباط العسكريين الحاليين والمتقاعدين وأقارب الرهائن المتبقين في غزة، إلى حل يؤدي إلى اتفاق سلام دائم عندما يطالبون بوقف إطلاق النار. إنهم يريدون انسحابا مؤقتا للقوات الإسرائيلية من أجزاء من غزة مقابل الإفراج عن الرهائن الإناث وكبار السن والمرضى، تليه عملية إعادة احتلال لغزة واستئناف الحرب حتى يتم سحق “حماس” وقتل السنوار، ثم على الأرجح العودة إلى نسخة أكثر قسوة من الوضع الذي كان قائماً قبل الحرب، بما في ذلك الاستيلاء على الأراضي في شمال غزة لتشكيل حزام أمني. أما الهجوم الجديد في لبنان فأقل إثارة للجدل، حيث يشجع بعض القادة الذين يعارضون نتنياهو إعادة احتلال مؤقتة للمرتفعات عبر الحدود وطرد سكانها اللبنانيين. قد يكون نتنياهو غير محبوب لكنه يقود سياسة تحظى بالشعبية.

لم تبد الحكومة الأميركية والحكومات الأوروبية الكبرى أكثر من معارضة رمزية وسطحية لتحركات إسرائيل في غزة والضفة الغربية. وقد فرضت كندا والاتحاد الأوروبي وفرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة عقوبات على بعض المستوطنين العنيفين الذين هاجموا الفلسطينيين، في حين أوقفت ألمانيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة بيع بعض الذخائر المعينة، مثل القنابل التي تزن 2.000 رطل إلى إسرائيل. ولكن بصورة عامة، منح الغرب إسرائيل حرية شبه مطلقة في عملياتها داخل غزة والضفة الغربية، ولم يبذل حتى الآن أي جهد حقيقي لإحياء عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية، مذعناً لمزاعم نتنياهو بأن الوقت غير مناسب. وتمثل هذه السياسة دينامية قديمة في علاقة إسرائيل بالغرب، وبصورة خاصة مع الولايات المتحدة، حيث يوافق الحلفاء الغربيون على اتباع نهج إسرائيل في التعامل مع القضية الفلسطينية طالما احترمت إسرائيل مصالحهم في الشرق الأوسط الأوسع.

مع ذلك، وعلى الرغم من دعم الحكومات الغربية لجهود إسرائيل الحربية، يشعر الإسرائيليون بأنهم يبتعدون بصورة متزايدة عن بقية العالم. وبعض هذا الشعور بالاغتراب والعزلة مبرر؛ فقد توقفت معظم رحلات الخطوط الجوية الأجنبية إلى تل أبيب، ووصل تصنيف إسرائيل الائتماني إلى أدنى مستوياته على الإطلاق. لكن جزءاً من هذه العزلة ناجم عن خيارات ذاتية شخصية، حيث تسلط وسائل الإعلام العبرية السائدة الضوء على الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين في الجامعات الغربية وداخل الأماكن العامة، إضافة إلى الحوادث المعادية للسامية، وهو ما يعزز رواية نتنياهو القائلة إن هذه الأحداث تمثل صوراً قديمة لكراهية اليهود. وعلى نحو مماثل، فإن المزاعم بأن إسرائيل ارتكبت جرائم حرب أو حاولت ارتكاب إبادة جماعية في غزة، التي يجري البت فيها حالياً داخل محكمتين دوليتين، تصوَّر عموماً في إسرائيل على أنها دعاية خبيثة وآثمة.

تغيير في الرأي

استعاد الإسرائيليون بعض الثقة بالنفس خلال أيلول (سبتمبر) عندما كثفت الحكومة هجماتها على “حزب الله”. فبعد السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، أثبت “حزب الله” أنه قادر على تدمير المدن والمطارات ومحطات الطاقة الإسرائيلية أثناء دعمه لـ”حماس”، مما أجبر الجيش الإسرائيلي على تقسيم قواته البرية بين جنوب إسرائيل وشمالها. وبالنسبة للإسرائيليين الذين كانوا محبطين منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، أعاد الهجوم الإسرائيلي المضاد إلى الأذهان حرب الأيام الستة خلال العام 1967، التي انتصرت فيها إسرائيل بسرعة بفضل تفوقها في القوة الجوية. وأعلن نتنياهو أن إسرائيل “تفوز” بالحرب، وهدد إيران راعية “حزب الله” بهجمات مماثلة. وأمرت وزارة التعليم الإسرائيلية بأداء رقصات احتفالية في المدارس الدينية العامة. وعلى الرغم من أن اليهود الإسرائيليين العلمانيين الليبراليين لم يرقصوا على أنغام الموسيقا في أماكن علنية، فإنهم كانوا أيضاً في غاية السعادة، حيث عزوا الشعور بالانتصار إلى شجاعة طياريهم وذكاء عملائهم الاستخباراتيين.

ولكن سرعان ما تلاشت هذه النشوة بعد أن ردت إيران بإطلاق عشرات الصواريخ، وقتل (إرهابيين) لستة أشخاص في محطة القطار الخفيف داخل تل أبيب. وبطريقة موازية، أثبتت العملية البرية الحديثة في لبنان، بالفعل، أنها أكثر كلفة من حيث الخسائر العسكرية الإسرائيلية، مقارنة بالغارات الجوية السابقة والعمليات الخاصة. ومن الواضح أن حرباً إقليمية أكبر تشمل إيران لن تقدم لإسرائيل انتصارات سريعة ودائمة. والشعور السائد بين الإسرائيليين بأنهم يخسرون الصراع بصورة عامة أعمق من أن تعوضه أي نجاحات عسكرية ضد “حزب الله” -وحتى إيران. ومن الضروري لهم أن يقبلوا بأن واقعهم الأوسع تغير بالفعل منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، وأن استراتيجيتهم تحتاج إلى التأقلم مع هذا الواقع.

بعد مرور عام، ما تزال إسرائيل في حداد على الخسائر التي تكبدتها بسبب أحداث السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، مع تكرار مشاهدها باستمرار في وسائل الإعلام. كما تفقد إسرائيل ميزتها الاقتصادية وتواجه مغادرة ملحوظة للنخب الليبرالية. لقد فشلت الحكومة في إعادة شعور الوحدة بين مواطنيها، متمسكة عوضاً عن ذلك بسياساتها المثيرة للانقسام. وبالإضافة إلى ذلك، تقترب قواتها العسكرية، وخاصة قوات الاحتياط، من مرحلة الإنهاك في أطول معركة مستمرة وغير محسومة في تاريخ البلاد. وحتى إذا لم تصدر المحاكم الدولية أوامر اعتقال بحق القادة الإسرائيليين، فستضطر إسرائيل إلى التعايش مع التداعيات الأخلاقية والسمعة المتضررة في الشرق الأوسط وفي جميع أنحاء العالم، بسبب الموت والدمار اللذين تسببت بهما في غزة.

عوضاً عن الانغماس في النشوة بعد مقتل نصر الله والانجرار إلى حرب إقليمية شاملة ومدمرة ضد إيران، يتعين على إسرائيل أن تستفيد من تفوقها الحالي في ساحة المعركة والضعف الذي تعانيه كل من “حماس” و”حزب الله”. وعليها أن تتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بوساطة أميركية على جبهتيها الجنوبية والشمالية، وأن تستعيد رهائنها وتسهل إعادة تأهيل غزة المدمرة، وتبدأ عملية شفاء وطني. إن إطالة أمد الحرب في محاولة عبثية لتحقيق “النصر الكامل” ستؤدي إلى وقوع مزيد من الضحايا والأضرار الاقتصادية، حتى لو فاز دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، كما يأمل نتنياهو. لعقود من الزمن، شكل كل من قطاع غزة ولبنان مستنقعاً لإسرائيل. ولذلك لا ينبغي أن تكرر أخطاءها السابقة، وعليها بدلاً من ذلك أن تقلل خسائرها وتبرم صفقة. لو كانت هناك حكومة إسرائيلية مسؤولة تراعي المصالح الاستراتيجية طويلة الأجل للبلاد لاغتنمت الفرصة بالفعل لإعادة إطلاق عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية والتقدم نحو اتفاق حل الدولتين مع محمود عباس المتقدم في السن، تماماً مثلما وقع بيغن معاهدة السلام التاريخية بين إسرائيل ومصر بعد انتصار الجيش الإسرائيلي في نهاية المطاف في حرب “يوم الغفران”.

في الواقع، تكمن مأساة إسرائيل في أن حكومتها الحالية تقود البلد في الاتجاه المعاكس. كانت مهمة نتنياهو طوال حياته تتمثل في هزيمة الحركة الوطنية الفلسطينية وتجنب أي تسوية إقليمية أو دبلوماسية معها. ويتلخص الهدف المعلن لائتلافه في إنشاء دولة يهودية من النهر إلى البحر، مع منح حقوق سياسية محدودة للرعايا غير اليهود إذا لزم الأمر. لكنه يفضل عدم منحهم أي حقوق على الإطلاق، حتى لو كانوا يحملون الجنسية الإسرائيلية. وتتفاقم الكارثة لأن أحزاب المعارضة الصهيونية تدعو إلى الإطاحة بنتنياهو، لكنها لا تجرؤ على رفع راية السلام والتعايش مع الفلسطينيين خوفاً من أن تبدو غير وطنية في زمن الحرب، أو أن يتهمها اليمينيون بالخيانة.

خلال الوقت الحاضر، يتم توجيه الإسرائيليين نحو قبول تعميق نظام الفصل العنصري المؤسسي في الضفة الغربية واحتلال دائم داخل غزة، وربما في جنوب لبنان، وتزايد الاستبداد والثيوقراطية في الداخل عوضاً عن النظر إلى المعنى الأعمق ليوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، وإدراك عدم استدامة الوضع الذي كان قائماً قبل الحرب، والاعتراف بأن محاولة “إدارة” القضية الفلسطينية ما دام النمو الاقتصادي مستمراً هي وهم ذاتي خاطئ، وتقدير خطورة التظاهر بأن الفلسطينيين غير موجودين. بعد عام من الحرب، من المؤسف أن التهديدات طويلة الأمد المحدقة بالديمقراطية والقيم الليبرالية في إسرائيل ازدادت خطورة فحسب.

——————انتهت النشرة——————