
إضاءة | واجهت الحركة الوطنية الفلسطينية، قبل سنة 1948، المسألة اليهودية في إطار تصوّرها مستقبل الأقلية اليهودية التي نشأت عن هجرات اليهود المتوالية إلى فلسطين، التي دعمتها سلطات الانتداب البريطاني، بينما واجهت هذه المسألة، بعد وقوع النكبة، في إطار موقفها إزاء دولة إسرائيل وإزاء سكانها اليهود.
فيما يلي ننشر نبذتين عن الحركة الوطنية الفلسطينية والمسألة اليهودية (قبل النكبة وبعدها) من الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية:
قـبـل الـنـكـبـة
اتخذت الحركة الوطنية الفلسطينية عند نشوئها، في أعقاب الحرب العالمية الأولى، شكل جمعيات إسلامية – مسيحية، ارتبطت بالحركة القومية العربية الجامعة التي جعلت من دمشق مركزاً لها، والتي جسّدت طموح العرب في المشرق العربي إلى التحرر والتوحد في إطار دولة واحدة. بيد أن الوعي القومي العربي في فلسطين صار يتطبع بطابع خاص نتيجة تنامي الشعور بمخاطر الهجرة والاستيطان اليهوديين، وخصوصاً بعد وصول “الموجة الثانية” من الهجرة اليهودية إلى فلسطين، في إثر تصاعد مشاعر “العداء للسامية” في روسيا.
ومقارنة بسابقتها، تميّزت موجة الهجرة الثانية بالحملات التي نظّمها أعضاؤها لطرد العمال والفلاحين العرب من المستوطنات اليهودية ومقاطعة المنتوجات العربية، وذلك خلف شعارَي “احتلال الأرض” و”العمل العبري”.
وقد تعمق هذا الوعي بالخطر الصهيوني نتيجة التجزئة التي فُرضت على المشرق العربي، وتوزّع الحركة القومية العربية الجامعة على حركات وطنية إقليمية. ففي مؤتمر سان ريمو، الذي عُقد في نيسان/ أبريل 1920، قرر الحلفاء وضع سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، وفلسطين والعراق تحت الانتداب البريطاني. وفي 25 تموز/ يوليو من السنة نفسها، دخلت القوات الفرنسية دمشق بعد هزيمة الجيش العربي في معركة ميسلون وإسقاط حكومة الملك فيصل .
الموقف من مستقبل الوجود اليهودي في فلسطين
بقيت الحركة الوطنية الفلسطينية، طوال عهد الانتداب البريطاني، ترفض بحزم التداعيات التي نجمت عن وعد بلفور، وتدعو إلى وقف هجرة اليهود إلى فلسطين وانتقال الأراضي العربية إليهم، بينما ظلت مواقفها ملتبسة إزاء مستقبل اليهود الذين نجحت الحركة الصهيونية، بالتواطؤ مع سلطات الانتداب، في تهجيرهم إلى فلسطين وضمان استقرارهم فيها.
وكان المؤتمر السوري العام ، الذي جعل دمشق مقراً له وشارك فيه عدد من الممثلين الفلسطينيين، قد وجّه في مطلع تموز 1919، رسالة إلى لجنة كينغ – كرين الأميركية بشأن مستقبل سوريا، أكد فيها رفض الهجرة اليهودية ومطالب الصهيونيين بأن تصبح فلسطين “كومونويلثاً يهودياً”، مبدياً استعداده لضمان الحقوق والالتزامات المشتركة مع “إخواننا الموسويين”.
وفي أوضاع التجزئة الاستعمارية التي فُرضت على بلاد الشام، طالب المؤتمر العربي الفلسطيني الثالث، الذي عُقد في مدينة حيفا في كانون الأول/ ديسمبر 1920 وكان إيذاناً بولادة الحركة الوطنية العربية الفلسطينية، بإقامة حكومة وطنية في فلسطين مسؤولة أمام مجلس نيابي، يتمثّل فيه سكان فلسطين بحسب نسبهم، بمن فيهم اليهود الذين كانوا يقيمون بفلسطين قبل الحرب العالمية الأولى، معرباً عن استيائه من الإدارة البريطانية لـ “اعترافها بالجمعية الصهيونية كهيئة رسمية” و”شروعها بتنفيذ المآرب الصهيونية”.
وفي 25 تشرين الثاني/ نوفمبر 1935، قدم زعماء الأحزاب العربية مذكرة إلى المندوب السامي البريطاني تضمنت الدعوة إلى إقامة حكومة ديمقراطية، والوقف الفوري للهجرة اليهودية، وسنّ “تشريع يلزم جميع المقيمين الشرعيين بالحصول على بطاقات الهوية وحملها”، لكن من دون أن تحدد بوضوح ما الذي تعنيه بـ “المقيمين الشرعيين”. وفي 23 تموز 1937، طالبت اللجنة العربية العليا التي كانت قد تشكلت في بداية الثورة الفلسطينية الكبرى، في معرض رفضها مقترح لجنة بيل (Peel) البريطانية الداعي إلى تقسيم فلسطين، بقيام دولة فلسطينية موحدة ومستقلة تضمن “حماية جميع الحقوق المشروعة للسكان اليهود أو غيرهم من الأقليات في فلسطين” وتحفظ “المصالح البريطانية المعقولة”.
وبقي هذا الالتباس في الموقف من مستقبل اليهود في فلسطين بارزاً في البيان الذي أصدرته “الهيئة العربية العليا”، في نيسان 1947، والذي دعا إلى حل قضية فلسطين بما يتفق مع “الميثاق العربي القومي”، و”الاعتراف للعرب بحقهم الشرعي في وطنهم واستقلالهم فيه أسوة بسائر البلاد العربية على أساس الديموقراطية وحماية حقوق الأقليات وفقاً لما تعارفت عليه المبادئ الديموقراطية”. كما كان بارزاَ في الخطاب الذي ألقاه هنري كتن، ممثل “الهيئة العربية العليا”، في 9 أيار/ مايو 1947 أمام اللجنة الأولى للجمعية العامة للأمم المتحدة، إذ أكد أن معارضة العرب للهجرة وإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين “لا تستند إلى أي تحيز عنصري ضد اليهود كيهود، ولكنها ستكون قوية بنفس القدر بغض النظر عن عرق أو دين أي مجموعة قد تحاول انتزاع البلاد من سكانها العرب أو فرض المهاجرين فيها ضد إرادة العرب”، ودعا فيه إلى الاعتراف “بحق فلسطين في الاستقلال وأن ينعم هذا البلد المعذب بمباركة حكومة ديمقراطية”.
وبعد صدور قرار تقسيم فلسطين الدولي رقم 181، في 29 تشرين الثاني 1947، أعلنت “الهيئة العربية العليا” رفضها القاطع له من دون أن تقدم حلاً بديلاً يراعي التغيّرات العميقة التي تولدت عن الحرب العالمية الثانية، والتي حوّلت المستوطنين اليهود في فلسطين إلى قوة سكانية وسياسية واقتصادية كبيرة، وخلقت أجواء من التعاطف الدولي الواسع معهم، وخصوصاً بعد المذابح الجماعية التي تعرضوا لها على أيدي النازية، معتبرةً أن قرار التقسيم “يعطي اليهود الأجانب جزءاً ثميناً من فلسطين، ويُجلي عدداً كبيراً من العرب عن موطنهم، كما يضع في فلسطين أمة غريبة تهدد الأمن في الشرق باعتدائها على البلاد العربية”.
ولم يتصدّ للمسألة اليهودية من جوانبها كافة، قبل وقوع النكبة، إلاّ الشيوعيين العرب في إطار “عصبة التحرر الوطني في فلسطين”، الذين انطلقوا من أن هذه المسألة نجمت “عن نجاح الصهيونية في تهجير أعداد كبيرة من يهود أوروبا من بلدانهم الأصلية إلى فلسطين، وذلك عقب شروع النازية في تنظيم حملات اضطهاد وحشية ضد هؤلاء اليهود ذهب ضحيتها ملايين منهم”، ورأوا أن من واجب الحركة الوطنية الفلسطينية العمل “على تخليص الشعب اليهودي في فلسطين من سيطرة الصهيونية”، واكتسابه للتعاون مع العرب في النضال من أجل استقلال فلسطين، وذلك من خلال الاعتراف بالسكان اليهود “اعترافاً ملموساً، والإعلان الصريح بأنها ستؤمن لهم حقوقاً ديمقراطية في ظل نظام جمهوري ديمقراطي”.
وعشية صدور قرار تقسيم فلسطين الدولي، اقترحت “عصبة التحرر الوطني” حلاً متكاملاً لقضية فلسطين، كان ضمن أسسه أن تقوم في فلسطين “حكومة ديمقراطية واحدة، يتساوى فيها جميع المواطنين في الحقوق والواجبات، على اختلاف أجناسهم وأديانهم ولغاتهم”، وذلك بعد جلاء القوات البريطانية عن أراضيها، وأن “يوضع دستور ديمقراطي ينسجم مع ميثاق هيئة الأمم المتحدة، فيه ضمانات تحفظ لليهود في فلسطين استقلالهم الثقافي والإداري المحلي”، وأن “تساهم فلسطين بعد استقلالها وانضمامها إلى المنظمة الدولية، بالاشتراك مع جميع دول العالم، في بحث قضية اللاجئين وحلها، على أن تقف الهجرة إلى فلسطين حالياً وفوراً، إلى أن تنتهي منظمة الأمم من بحث قضية اللاجئين واتخاذ القرارات بشأنها”.
وبعد صدور القرار 181، في 29 تشرين الثاني 1947، واندلاع الصدامات الدموية بين العرب واليهود، حذرت “عصبة التحرر الوطني” من تداعيات هذه الصدامات السلبية على النضال من أجل الحفاظ على وحدة فلسطين، ثم وافقت أغلبية أعضاء العصبة في المؤتمر الذي عُقد في مدينة الناصرة ، في شباط/ فبراير 1948، على قرار تقسيم فلسطين الدولي، متساوقة بذلك مع الموقف السوفياتي المؤيد لذلك القرار. ومع أن العصبة أعربت عن قناعتها بأن قرار التقسيم لا يقدم الحل الأمثل للقضية الفلسطينية، إلاّ إنها رأت فيه خطوة مهمة على طريق جلاء الجيوش البريطانية عن فلسطين وإلغاء الانتداب.
عـقـب الـنـكـبـة
إذا كانت الحركة الوطنية الفلسطينية واجهت المسألة اليهودية في إطار تصورها مستقبل الأقلية اليهودية التي نشأت عن هجرات اليهود المتوالية إلى فلسطين قبل سنة 1948، فهي واجهت هذه المسألة، بعد وقوع النكبة، في إطار موقفها إزاء الدولة التي نجحت الحركة الصهيونية في إقامتها فوق الأرض الفلسطينية وإزاء سكانها اليهود.
الدولة الديمقراطية: الإقرار بالوجود اليهودي في فلسطين
بعد وقوع نكبة فلسطين، ساد في الخمسينيات موقف يقوم على مماهاة الصهيونية باليهودية، تبنته “الهيئة العربية العليا” بزعامة محمد أمين الحسيني، التي واصلت نشاطها من القاهرة ثم من بيروت، وتبنّته “حركة القوميين العرب”، التي رأت أن اليهودية والصهيونية “اسمان لمسمّى واحد ومضمون واحد، حتى لو اعتبرنا الثانية، تجاوزاً، الوجه السياسي الحديث للأولى كما يحلو للبعض أن يفعل”، فاليهودية هي”المنبع”، والصهيونية هي “المظهر والعمل”، كما تبنته “جماعة الإخوان المسلمين” التي قدّرت أن الصهيونية واليهودية العالمية تنطويان على “معنى واحد”.
وبنشوء منظمة التحرير الفلسطينية، في سنة 1964، غابت تلك المماهاة بين الصهيونية واليهودية، وحدث تطوّر على الموقف من مستقبل الوجود اليهودي في فلسطين. فبعد أن رفض “الميثاق القومي الفلسطيني” لسنة 1964 “دعوى الروابط التاريخية أو الروحية بين اليهود وفلسطين”، ونظر إلى اليهودية “بوصفها ديناً سماوياً ليست قومية ذات وجود مستقل” وإلى اليهود على أنهم “ليسوا شعباً واحداً له شخصيته المستقلة”، أكد أن اليهود “الذين هم من أصل فلسطيني” يُعتبرون “فلسطينيين إذا كانوا راغبين بأن يلتزموا العيش بوفاء وسلام في فلسطين “مع سكانها العرب، لكن من دون أن يوضّح واضعو ذلك “الميثاق” قصدهم من الإشارة إلى اليهود من أصل فلسطيني. بينما أكد “الميثاق الوطني الفلسطيني” لسنة 1968 أن اليهود الذين لهم حق البقاء في فلسطين، بعد تحريرها، هم اليهود “الذين كانوا يقيمون إقامة عادية في فلسطين حتى بدء الغزو الصهيوني لها”، من دون أن يحدد تاريخاً دقيقاً لبدء هذا الغزو.
وسعت حركة “فتح” بعد نجاحها في صيف سنة 1968 في السيطرة على هيئات منظمة التحرير الفلسطينية، لضمان الاعتراف بهذه المنظمة بصفتها “ممثل” الشعب الفلسطيني، وراحت تبحث، وخصوصاً بعد موافقة مصر والأردن على قرار مجلس الأمن رقم 242 واعترافهما واقعياً بوجود إسرائيل، عن صيغة تضمن التعايش مع التجمع السكاني اليهودي في فلسطين، وتكون مقبولة دولياً. وكانت حركة “فتح” قد أشارت في كراسها الأول الموجّه إلى الصحافة الأجنبية في كانون الثاني/يناير 1968، إلى أن نضالها لا يستهدف اليهود كيهود، وإنما يستهدف “النظام الفاشستي – العسكري- الصهيوني”، مؤكدة أن الفلسطينيين يدركون “أنه يوم يرفرف علم فلسطين فوق أرضهم المحررة الديمقراطية المحبة للسلم، ستبدأ حقبة جديدة يعيش فيها الفلسطينيون واليهود مرة ثانية بانسجام وجنباً إلى جنب”.
وفي البيان الذي وجهته الحركة إلى هيئة الأمم المتحدة، في تشرين الأول/أكتوبر من العام نفسه، برز هدف “الدولة الديمقراطية”، بصورة واضحة، إذ أشير إلى أن هدف حركة المقاومة الفلسطينية يتمثّل في “تحرير فلسطين بأكملها من الاغتصاب والاحتلال وإنشاء دولة مستقلة ديمقراطية ذات سيادة، يتمتع في ظلها جميع المواطنين الشرعيين، بغض النظر عن الدين واللغة، بحقوق متساوية”. ومع أن حركة “فتح” تهرّبت في بيانها المذكور من تحديد طبيعة المواطنين اليهود الشرعيين، إلاّ أنها صارت تؤكد، على قاعدة الفصل الذي أقامته بين اليهودية والصهيونية، ضرورة العمل على “تحرير” اليهود من الصهيونية، التي “شردت شعبنا وجلبت اليهود لتستخدمهم أدوات على مذبح أطماعها التوسعية”، كما ورد في الكلمة التي ألقاها ممثلها في المؤتمر الدولي لنصرة الشعوب العربية، الذي عقد في القاهرة في كانون الثاني/يناير 1969.
وفي ربيع العام نفسه، أوضح أحد أبرز قادتها، صلاح خلف (أبو إياد)، موقف الحركة إزاء هذه المسألة بتأكيده أن حق المواطنة في الدولة الفلسطينية الديمقراطية سيكون مكفولاً لكل يهودي “ليس فقط يعمل ضد الصهيونية، بل حتى طهّر نفسه من الأفكار الصهيونية، بمعنى أنه اقتنع بأن الأفكار الصهيونية دخيلة على المجتمع الإنساني”. وبغية المساهمة في تحقيق ذلك، أشار خلف إلى أهمية إبراز الطبيعة الإنسانية وغير العنصرية للثورة الفلسطينية، بحيث “نوضح حقيقة موقفنا الإنساني من اليهودي كإنسان”، ونقنعه “أننا في حقيقتنا لسنا، كما تصوّرنا الصهيونية، برابرة نريد ذبحه ورمي أطفاله ونسائه في البحر”، ودعا الدول العربية إلى أن تبدي استعدادها “لاستقبال جميع اليهود الذين هاجروا منها إلى فلسطين وأن تُعاد لهم ممتلكاتهم وحقوقهم المدنية كمواطنين عرب في هذه البلاد على قدم المساواة مع المواطنين العرب الآخرين”، واستغلال التناقضات القائمة داخل المجتمع الإسرائيلي وخصوصاً بين اليهود الشرقيين واليهود الغربيين.
وقد أثار تبني حركة “فتح” هذا الهدف سجالاً غنياً على الساحة الفلسطينية، تميّزت في إطاره مواقف كلٍ من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين. ففي النصف الثاني من سنة 1968، تبنت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين هدف إقامة “دولة عربية ديمقراطية على أرض فلسطين، تُحفظ فيها الحقوق الثقافية والدينية للتجمعات غير العربية، ومنها التجمع البشري اليهودي”، وذلك بعد تحطيم دولة إسرائيل “ككيان عسكري سياسي اقتصادي قائم على العدوان” وتحرير فلسطين. وقدّرت الجبهة، في سنة 1970، أن عملية تحرير فلسطين، الطويلة والشاقة، ستنجزها “حركة تحرير وطني تقدمي اشتراكي عريضة، قاعدتها أوسع بكثير من جماهير الشعب العربي الفلسطيني”، وأن شكل الدولة التي ستقوم إثر التحرير “سيكون محكوماً جغرافياً لا بحدود فلسطين، كما خططها الانتداب البريطاني، بل بحدود حركة النضال الشعبي التقدمي الاشتراكي التي ستنجز التحرير”، وأنه في إطار هذه الدولة “سيتوافر حل ديمقراطي للمسألة اليهودية في فلسطين، وسيصير اليهود من مواطني تلك الدولة لهم ما لغيرهم من حقوق، وعليهم ما لغيرهم من واجبات”.
أمّا الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، فقد انطلقت، عند تأسيسها في سنة 1969، من وجود مسألتين ينبغي حلهما، هما “المسألة الفلسطينية” و”المسألة الإسرائيلية”، معتبرة أنه تكوّن “شعب يهودي” على الأرض الفلسطينية يحق له أن يتمتع بالمساواة التامة في “الدولة الفلسطينية الديمقراطية”، وأن يطوّر ثقافته القومية. وفي سياق دعوتها إلى تبني “حل ماركسي – لينيني صحيح” للمسألتين الفلسطينية والإسرائيلية، أعربت الجبهة عن رفضها “الحلول الشوفينية والرجعية الصهيونية القائمة على الاعتراف بدولة إسرائيل”، و”الحلول الشوفينية الفلسطينية والعربية، المطروحة قبل حزيران/ يونيو 1967 وبعده، القائمة على ذبح اليهود ورميهم بالبحر”، مشدّدة على ضرورة النضال من أجل حل ديمقراطي شعبي لهاتين المسألتين “يقوم على إزالة الكيان الصهيوني، ممثلاً بكافة مؤسسات الدولة: الجيش، الإدارة والبوليس، وكافة المؤسسات السياسية والنقابية الشوفينية والصهيونية، وإنشاء دولة فلسطينية ديمقراطية شعبية، يعيش فيها العرب واليهود دون تمييز، دولة ضد كافة ألوان القهر الطبقي والقومي مع إعطاء الحق لكل من العرب واليهود في تنمية وتطوير الثقافة الوطنية لكل منهما”. ودعت الجبهة إلى مخاطبة الرأي العام الإسرائيلي والشروع في حوار مع جميع اليهود “التقدميين” في إسرائيل والعالم، ودعوتهم إلى “المشاركة في حركة التحرر الوطني الفلسطينية”، وخوض “قتال مشترك مع الفلسطينيين “على طريق تحرير فلسطين وإقامة الدولة الديمقراطية”، وأقدمت بالفعل على إجراء حوار مع منظمة يسارية إسرائيلية صغيرة تروتسكية التوجه، باسم “ماتزبن”، كانت تتبنى فكرة قيام دولة ثنائية القومية في فلسطين.
نحو الاعتراف الضمني بوجود إسرائيل
إذا كانت نتائج حرب حزيران 1967 قد بيّنت استحالة تكرار تجربة الثورة الجزائرية فيما يتعلق بمصير المستوطنين اليهود في فلسطين، بمعنى رجوعهم إلى الأوطان التي قدموا منها إلى فلسطين، وشجّعت منظمة التحرير الفلسطينية على تبني فكرة “الدولة الفلسطينية الديمقراطية”، فإن نتائج حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، أوصلت هذه المنظمة إلى قناعة بأن التخلي عن هدف التحرير والقبول بتقسيم فلسطين بين العرب الفلسطينيين واليهود الإسرائيليين هو أمر لا بد منه.
فقد أقرّت الدورة الثانية عشرة لـ المجلس الوطني الفلسطيني، التي التأمت في القاهرة في مطلع حزيران 1974، “البرنامج السياسي المرحلي” الذي دعا إلى إقامة “سلطة الشعب الوطنية المستقلة” على كل جزء من الأرض الفلسطينية يتم تحريره، معتبراً أن أية خطوة تحريرية تتم هي “حلقة لمتابعة تحقيق استراتيجية منظمة التحرير في إقامة الدولة الفلسطينية الديمقراطية”. ثم طوّرت منظمة التحرير الفلسطينية هذا الهدف، في الدورة الثالثة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني التي عقدت في القاهرة في آذار/ مارس 1977، عندما استبدلت الحديث عن “سلطة الشعب الوطنية المستقلة المقاتلة على كل جزء من الأرض الفلسطينية التي يتم تحريرها”، بالإشارة الصريحة إلى “الدولة الفلسطينية المستقلة” على التراب الوطني، مع تجنّب أي ذكر للدولة الديمقراطية الفلسطينية، كما أسبغت صفة رسمية على الاتصالات التي كانت قد بدأتها قيادة حركة “فتح”، منذ سنة 1975، مع بعض القوى الإسرائيلية المستعدة للحوار مع منظمة التحرير، وذلك بتأكيدها “أهمية العلاقة والتنسيق مع القوى اليهودية الديمقراطية والتقدمية في داخل الوطن المحتل وخارجه التي تناضل ضد الصهيونية كعقيدة وممارسة”.
نحو الاعتراف الصريح بوجود دولة إسرائيل
بعد اندلاع الانتفاضة الأولى، ذهبت منظمة التحرير الفلسطينية خطوة جديدة إلى الأمام على طريق إقرارها بوجود دولة إسرائيل، وذلك عندما تبنت الدورة التاسعة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني في مدينة الجزائر، في منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر 1988، وثيقة الاستقلال، التي أعلنت قيام دولة فلسطين فوق الأرض الفلسطينية، وعاصمتها القدس الشريف، وموافقة منظمة التحرير الفلسطينية، لأول مرة منذ نشوئها، على قرار تقسيم فلسطين الدولي رقم 181 لسنة 1947، باعتباره “ما زال يوفّر شروطاً للشرعية الدولية تضمن حق الشعب العربي في السيادة والاستقلال الوطني”. كما وافقت منظمة التحرير، في تلك الدورة، على قرارَي مجلس الأمن رقم 242 ورقم 338 ، بحيث تحددت حدود الدولة الفلسطينية ضمن الأراضي التي احتلتها إسرائيل في حزيران سنة 1967.
وفي البيان الذي ألقاه في المؤتمر الصحافي الذي عقده في مدينة جنيف في 14 كانون الأول/ ديسمبر 1988، أكد ياسر عرفات أن القرارات التي تبنتها الدورة التاسعة عشرة للمجلس الوطني “تعني حق شعبنا بالحرية والاستقلال الوطني وفقاً للقرار 181، وحق جميع الأطراف في النزاع بالوجود في سلام وأمن، بما فيها الدولة الفلسطينية وإسرائيل وجيرانها وفقاً للقرار 242”.
وبعد خمس سنوات تقريباً على اتخاذ هذا الموقف، وتتويجاً للمفاوضات السرية التي جرت في مدينة أوسلو بين ممثلين عن منظمة التحرير الفلسطينية وممثلين عن حكومة حزب العمل (الإسرائيلي)، أكد ياسر عرفات في الرسالة التي أرسلها إلى رئيس هذه الحكومة يتسحاق رابين، في 9 أيلول/ سبتمبر 1993، أن منظمة التحرير الفلسطينية تعترف “بحق دولة إسرائيل في الوجود بسلام وأمن”، وتعيد التذكير بقبولها قراري مجلس الأمن رقم 242 و 338 ونبذ اللجوء إلى “الإرهاب وأعمال العنف الأُخرى”، وتتعهد بأن بنود الميثاق الوطني الفلسطيني “التي تنكر على إسرائيل حق الوجود، وفقراته التي لا تتلاءم مع الالتزامات الواردة في هذه الرسالة” ستصبح “ملغاة وغير سارية المفعول بعد الآن”.
قراءات مختارة:
توما، إميل. “حل قضيتنا الوطنية يتوقف على موقفنا من الشعب اليهودي في فلسطين. “الاتحاد” ( 8 تموز 1945)، ص 1.
حوراني، فيصل. “جذور الرفض الفلسطيني 1918-1948”. نيقوسيا: شرق برس، 1990 .
خلة، كامل محمود. “فلسطين والانتداب البريطاني 1922-1939”. بيروت: مركز الأبحاث، منظمة التحرير الفلسطينية، 1974 .
“موقفنا من المرحلة الخطيرة التي نجابهها”. “الغد”، 23 أيار 1947، ص 3-4 و ص 24 .
الهيئة العربية العليا لفلسطين. “قضية فلسطين العربية” [1947].
الهيئة العربية العليا لفلسطين. “ميثاق الحركة الوطنية الفلسطينية: دعوة عامة إلى التعاون والعمل لإنقاذ الوطن السليب”. بيروت: الهيئة العربية العليا لفلسطين، 10 أيلول 1962.
حميد، راشد (إعداد). “مقررات المجلس الوطني الفلسطيني 1964-1974”. بيروت: مركز الأبحاث، منظمة التحرير الفلسطينية، 1975.
حوراني، فيصل. “الفكر السياسي الفلسطيني: دراسة للمواثيق الرئيسية لمنظمة التحرير الفلسطينية”. بيروت: مركز الأبحاث، منظمة التحرير الفلسطينية، 1980 .
رشيد، محمد [نبيل شعث]. “نحو فلسطين ديموقراطية: الثورة الفلسطينية واليهود إزاء المجتمع الديموقراطي واللاطائفي في فلسطين الغد”. بيروت: مركز الأبحاث، منظمة التحرير الفلسطينية، 1970.
الشريف، ماهر. “البحث عن كيان، دراسة في الفكر السياسي الفلسطيني 1908-1993”. نيقوسيا: مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي، 1995.
الشريف، ماهر وعصام نصار. “تاريخ الفلسطينيين وحركتهم الوطنية”. بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2018.
Gresh, Alain. “O.L.P: histoire et stratégies; vers l’État palestinien”. Paris: Spag-Papyrus, 1983.
* باحث ومؤرخ – مؤسسة الدراسات الفلسطينية – بيروت.