إذا كانت القضية الفلسطينية خارج الانقسام الذي شق الشارع الإسرائيلي قبل الحرب وتمحور حول ما سمي بالانقلاب القضائي، فإن غزة قد أعادت القضية الفلسطينية لتشكل مرة أخرى محور الانقسام الإسرائيلي، مثلما أعادتها أيضا إلى الواجهة العربية والدولية
في وقت تتعمق فيه الخلافات مع الولايات المتحدة بشأن العملية العسكرية المرتقبة في رفح، والتي تعززها عملية قتل فريق الإغاثة الدولي والتصويت الاحتجاجي في ويسكنسون، تتزايد الأصوات الإسرائيلية التي تشكك بالجدوى العسكرية لهذه العملية والتي تعتقد أن ما يسميه نتنياهو “النصر المطلق” هو الكذبة الأكبر في تاريخ إسرائيل وجيشها، كما يسميها الجنرال احتياط يتسحاق بريك، الذي يعتقد أن نتنياهو وقادته العسكريين يقودون إسرائيل إلى الهاوية.
ويبدو أن العملية العسكرية الإسرائيلية قد وصلت إلى طريق مسدود رغم مرور ستة أشهر من حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على شعبنا الفلسطيني في القطاع، وما أحدثته من دمار شامل لم يبق ولم يذر أثرا لحياة إنسانية طبيعية فوق أرضه، يشار في هذا السياق إلى ما كشفه تحقيق لـ”سيحا مكوميت” و972+” عن استناد جيش الاحتلال إلى مخزون معلوماتي سري، يعتمد على الذكاء الاصطناعي لتحديد 37 ألف هدف على أساس الشك بأن لهم علاقة بحماس، وهو بلسان ضابط استخبارات في الجهاز المسمى “لافندر” أمر غير مسبوق، وعزى الضابط المذكور ذلك إلى حاجة الانتقام على خسارة السابع من أكتوبر مشيرا، إلى أن الجهاز يقوم بالعملية ببرود أعصاب.
إنه “الفشل المطلق” الذي يتمثل عسكريا في المراوحة بالمكان والغوص التدريجي في رمال غزة دون تحقيق أي من أهداف الحرب، حيث تقف حركة المقاومة الفلسطينية – حماس في موقع هو أبعد ما يكون عن الانهيار الذي تحلم به قيادة إسرائيل السياسية والعسكرية، ويقبع الأسرى الإسرائيليين في موقع هو “أعمق” ما يكون من أن تطالهم أيدي الجيش الإسرائيلي ومخابراته، وينتصب شعب غزة الفلسطيني شامخا فوق جراحه وأطلال بيوته المهدمة ليفشل كل الحيل والمؤامرات الإسرائيلية/ الإميركية المتعلقة بالسلطة البديلة من “عشائر” و”قبائل” و”عملاء” وغيرها من قوى فلسطينية وعربية دخيلة لا تحتكم لإرادة الشعب الفلسطيني.
هذا الصمود الفلسطيني الأسطوري الذي خلقته غزة المعجزة حول استمرار العدوان الإسرائيلي إلى ضرب من العبث، وكسر التحالف الدولي الغربي الاستعماري المتواطئ مع حرب الإبادة الإسرائيلية، وفكك أواصره ودفع ببعض دوله إلى حد وقف تصدير السلاح لإسرائيل وببعضها الآخر إلى ممارسة الضغوط السياسية عليها لوقف الحرب، بعد أن كانت دافعة وداعمة لها في بدايتها وعلى مدى أشهرها الأولى.
كما فكك هذا الصمود الجبهة الداخلية الإسرائيلية التي لم تشهد في تاريخها مثل هذا الحشد والتماسك على مدى أشهر طويلة من العسكرة وسيادة خطاب القوة الاستعلائي، فعادت في الأيام الأخيرة مظاهر الاحتجاج السياسي والانقسامات التي كانت سائدة قبل الحرب لتملأ الساحات والشوارع وتحاصر بيت نتنياهو منددة بفشله ومطالبة بإسقاط حكومته اليمينية.
لقد أيقن الشارع الإسرائيلي أن مواصلة الحديث عن عملية رفح التي أعلن نتنياهو أنه صدق عليها ثلاث مرات وعن “النصر المطلق”، هو مجرد تضليل يمارسه الأخير لإطالة أمد الحرب خوفا من مواجهة الحقائق التي سيكشفها وقفها، والتي لا تقتصر على حجم الدمار الذي أحدثته في غزة وتحويلها إلى منطقة غير قابلة للحياة، وما ستحصده على هذا الصعيد من سقوط أخلاقي وعزلة دولية واستعداء لشعوب المنطقة والعالم، بل تتعدى ذلك إلى فداحة الخسائر الاقتصادية والسياسية والمعنوية غير قابلة للإصلاح، والتي ربما تضع إسرائيل على ميزان العالم مرة أخرى، مثلما حدث مع جنوب إفريقيا.
وإذا كانت القضية الفلسطينية خارج الانقسام الذي شق الشارع الإسرائيلي قبل الحرب وتمحور حول ما سمي بالانقلاب القضائي، فإن غزة قد أعادت القضية الفلسطينية لتشكل مرة أخرى محور الانقسام الإسرائيلي، مثلما أعادتها أيضا إلى الواجهة العربية والدولية بعد أن كادت إسرائيل وأميركا وأعوانهما من دول عربية أن تطوي هذا الملف إلى الأبد.