عربيمقالات

كتب منصف الوهايبي// مؤرّخو فلسطين الجدد و«الإبادة»: شهداء وشهودَا

عاشت البشريّة في شباط (فبراير) 2023 على وقع الزلزال المدمّر الذي ضرب تركيا وسوريا، وأودى بحياة أكثر من 52 ألف شخص، وقبله زلزال كشمير عام 2005 الذي كان عدد ضحاياه 40 ألفا، ناهيك عن الدمار المروّع الذي أتى على الأخضر واليابس في هذه البلدان. ولا شكّ أنّ آثاره لا تزال ماثلة حتى اليوم، لكن طواها النسيان في ما يطوي من كوارث طبيعيّة متلاحقة شرقا وغربا، وما إليها من أوبئة وطواعين جارفة، قديما وحديثا؛ ليست من صنع البشر، وإن قلبت أحوالهم وبدّلتها بالجملة: «فكأّنّما تبدّل الخلق من أصله، وتحوّل العالم بأسره، وكأنّه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث» بعبارة ابن خلدون الاستشرافيّة. غير أنّ هناك الكوارث التي هي من صنع البشر مثل «المحرقة» أو «الشوة»shoah كما تسمّى في العبريّة، وتعني «الكارثة». وقد يكون هناك شبه ما بينها وبين الكلمة العربيّة «الشَّوِيَّةُ» التي تعني معنى من معاني الهلاك، أو بقيّة قومٍ هَلَكوا، والجمع شَوايا؛ كما في قول الشاعر: «فهمْ شَرُّ الشَّوايا من ثُمود».
والمقصود مقتل ما يقرب من 6 ملايين يهودي أوروبي على يد النازية؛ خلال فترة الحرب العالميّة الثانية؛ أو ما يسمّى «الهولوكوست» في الدول في البلدان الأنغلوسكسونية وأوروبا عامّة؛ وهي تعني باليونانية «التضحية حرقا». ومثيلها اليوم «حرب الإبادة» في غزّة وقد تحوّلت إلى بيداء أو فلاة جرداء، حيث يقتل الفلسطينيّون العزّل، بنيران الجيش الإسرائيلي، أو يموتون جوعا وعطشا وبردا.
ومن المفارقات أنّ مصطلح «الإبادة الجماعية Le génocide» ومفهومها، يرجع إلى رافائيل ليمكين (1944 ـ 1959) فهو الذي نحته من اليونانيّة القديمة. وهو رجل قانون بولوني يهودي، ولد في أزياريسكا قبل أن تكون جزءا من بيلاروسيا، وتوفي في نيويورك. وقد بيّن ذلك في محكمة نورمبرغ، ثمّ في الأمم المتّحدة عام 1948. وكان قبلها قد ساهم في الجهود التي بذلتها عصبة الأمم، من أجل سنّ قانون دولي إنساني من شأنه أن يعاقب كل من يعمد إلى إبادة المجموعات العرقيّة والقوميّة والدينيّة من الأقلّيات. وكان هدفه عقد صلة بين ممارستين اقترح إدماجهما في القانون الدولي هما: «الوحشيّة» و«التخريب». ولعلّه تفرّد بالقول إنّ الإبادة الجماعيّة من حيث هي ظاهرة تاريخيّة عامّة، أقدم بكثير من المحرقة.  وهي في تقديره تعود إلى العصور القديمة، بل إلى العصور التوراتيّة.
لا مناص إذن من المقارنة بين فظاعة النازيّة وفظاعة ضحاياها من اليهود الإسرائيليّين؛ حتّى وإن قال قائل إنّ تشابه الأحداث والوقائع بين الماضي والحاضر لا يعني تطابقها تماما، فالحدث التاريخي يظلّ فريدا من نوعه، وهو لا يتكرّر؛ حتى وإن أوهمنا بذلك. بيْد أنّ المقارنة لا تعني التشابه ضرورة، وما يجري في غزّة أفظع بكثير؛ فنحن نراه بأمّ أعيننا، ونسمعه بآذاننا، وبخاصّة في رمضان حيث تدوّي مدافع الإفطار في مدننا، مع أذان المغرب، فنهرع إلى موائدنا؛ وتدوّي مدافع الاحتلال في غزّة، فتكون الوجبة وهي اليوم لا تعني هناك «الأكلة» في اليوم إلى مثلها في الغد؛ وإنّما السقطة والهدّة والضحايا الذين يسقطون إلى الأرض أو العالقين تحت الأنقاض.
لا مناص إذن من أن نختبر شرقا وغربا، انتماءنا المشترك إلى عالم البشر بما لهم وعليهم من لين وشدّة، وأن نوثّق عرى الإنسانيّة الواحدة، والقدرة على الاستبصار، في هذه المحنة الفلسطينيّة، حتى لا ننسى هؤلاء الأطفال والنساء والشيوخ والشباب ضحايا «الشرّ الأنطولوجي» كما يسمّيه أهل الفلسفة، الشرّ الذي يحمل وسْم دولة الاحتلال المتغطرسة ومؤسّستها العسكريّة الكريهة. فما يجري هو تاريخيّ بشكل من الأشكال، يكشف لمن لا تزال على عينيه غشاوة، «كبرياءَ» الغرب و«غطرستَه» و«خواءَ» ما يبشّرنا به من قيم ومثل؛ أي ما يتهدّد الحياة التي تتلاعب بها الممارسة السّياسيّة في انفصال تامّ عن الأخلاق، إذ يتبنّى الغربيّون عامّة خطابا دوغمائيّا تبريريّا، ما عدا قلّة قليلة من الأفراد ومنهم يهود شرفاء؛ لا نملك إلاّ أن نقف لهم وقفة إجلال.
قد يكون الواقع التاريخي موضوعيّا، أو موجودا بشكل مستقلّ عن صانعيه، في منظور علم التاريخ. وكلّنا صنيعة تاريخ، بشكل من الأشكال، ومع ذلك فها هو التاريخ يُصنع تحت أبصارنا؛ يصنعه الفلسطينيّون والإعلاميّون «المؤرّخون الجدد» شهداء وشهودا، حيث لا أحد منّا بميسوره أن يتحلّل من عصره ومن فكره. وعليه ينتفي ما تعلّمناه من دروس الفلسفة من أنّ وعي التاريخ ليس وعيا في التاريخ؛ بل هو اليوم الوعي نفسه.
وهؤلاء هم «الحلقة المفقودة» التي يخفق المؤرّخ أو المفكّر أو الفيلسوف، ما لم يدرك أهميّتها في السؤال التاريخي نفسه.  والمسوّغ لهذا الطرح أكثر من سبب، فهذه «المحرقة» الفلسطينيّة حيث ينتهك «القانون الانساني الدولي» حدث ومفهوم تاريخيّان في ذات الآن، إذ يُلزمُ بالاستدراك على مفهوم التاريخ نفسه و«تاريخ التاريخ»؛ حتّى لا ننساق إلى نوع من «اللاتاريخيّة» إذا جاز لي أن أستخدم هذا المصطلح في السياق الذي أنا به، ونحصر المسألة في مجرّد حرب وضحايا، كما يروّج لذلك طوائف من ساسة الغرب ومن إعلاميّيهم، في بلاتوهات وكتابات تراوح بين التّنظير المجرّد وبين التّعبير الفنّي وبين الإنشاء السّرديّ على نحوٍ يتمثّل ما يمكن أن نعتبره «تعاطفا» مفرطا لدى مجتمعاتنا المعاصرة تتجلّى في مختلف وسائل الإعلام ووسائطه، تجاه التّعبير العموميّ أو الخاصّ عن الشرّ، وعن الألم وعن المرض أو الموت.
وهي حساسيّة تتمثّل في «الاحتفاليّة الإشفاقيّة» على كلّ من يبدو أنّ الدّنيا سامته ألوانا من العذاب، وتتمثّل في استغراب مشطّ من الشّرّ أو السوء الذي تأمر به النّفس البشريّة؛ كما لو أنّه لم يكن ليخطر ببال الواحد منّا أنّ الإنسان يمكن أن يكون شرّيرا إلى هذا الحدّ الذي نعاينه في اقتراف هذه الجريمة أو تلك. و كلّ هذا يتمّ بمعزل عن تناول حقوقيّ مؤسّساتي يفصل في تعقيدات الوضع البشريّ، كما لو أنّ الإنسان يضاعف إنسانيّته على قدر ما يزداد «حساسيّة إشفاقيّة» تجاه بعض الوضعيّات الإنسانيّة أو الاجتماعيّة. أمّا إذا اقتصر هذا «التعاطف» على مجرّد «انفعال» وجداني، فإنّه يَضمر ويضمحلّ، ويكون من الهباء الذي لا يدوم ولا يعمّر، على نحو ما رأينا إثر فضيحة سجن «أبو غريب»، فقد خبت جذوتها شيئا فشيئا؛ إذ لم يتمّ تحويل هذه «الحساسيّة» أو هذا «التعاطف» إلى مؤسّسة أخلاقيّة وقانونيّة على غرار الهولوكوست.
إنّ الخير ليس مجرّد رغبة وإنّما هو مهمّة يضطلع بها الإنسان، وهو حقيق بها من جهة كونه إنسانا؛ وعليه أن يكون في مستوى هذا الحقّ. وحتى ما إذا كانت الخير هو ما نرغب فيه؛ فإنّه يتعيّن على الإنسان أن يضطلع به مهمّةً نبيلة. ومن ثمّة لا يكون الخير مجرّد رغبة، ولا يكون مجرّد حقّ. ولكنّه يكون أيضا واجبا. وقد يكون من الطّريف أن نصوغ معادلة بشأن الخير قد تبدو تأليفا بين عناصر كنّا نظنّ أنّها متنافرة بحيث نقول: إنّ الخير، بالرغم من الشرّ الذي يكاد يحفّنا في مسالك عيشنا، حقّ يجب أن نرغب فيه، ونسعى إليه.
إنّ ما تفعله دولة الاحتلال في غزّة وفي الضفّة الغربيّة، من وحشيّة متعمّدة وقتل مُصنّع، لا يختلف عمّا عاناه ضحايا النازيّة في «معسكرات الموت». وهي مثار تساؤلات جوهريّة في تاريخ الهولوكوست، حول القتلة والضحايا والشهود، تضع العقل البشري على المحكّ. وهذه الجرائم، لا تفسّر بـ«الطبيعة الإنسانيّة» أو بأنّ «الإنسان حيوان اجتماعيّ بالطبع» أو بـ«بجنون» أفراد، ونحن نراهم ونسمعهم يرتكبون فظاعاتهم وهم على دراية تامّة بها. قد تكون «الحلقة المفقودة» التي أشرت إليها أعلاه، غير ملحوظة، إلاّ من حيث هي ضحيّة لا غير، وهو ما ينبغي تجاوزه، لأنّ لبّ المسألة ليس في «الإعانات» على ضرورتها القصوى، وإنّما في حقّ الفلسطينيّين في أرضهم وفي دولتهم المستقلّة، أسوة بسائر الشعوب.
ومثلما كان هناك «استبطان سرّي» للهولوكوست كما يقول مؤرّخوه، صار لزاما على مؤرّخينا وحتّى مفكّرينا وفلاسفتنا أن ينتبهوا لهذا المنحى، وأن يأخذوا بالحسبان المضامين التاريخيّة والفلسفيةّ للمحرقة الفلسطينيّة؛ حتّى لا تختزل في مجرّد «دور صامت»، أو موضوع للميتافيزيقا، أو الاقتصار على تعليم الضحيّة كيفيّة الخروج من المصيدة.  ذلك أنّ الإبادة الجماعيّة في فلسطين، ليست جريمة يرتكبها بشر في حقّ بشر آخرين أو عنف فحسب، وإنّما هي جريمة مزدوجة فهي «إبادة بيئيّة» أيضا. والسؤال: هو كيف لهذه الجرائم أن تقع تحت بصر العالم كلّه؟ أهي «طبيعة البشر»؟ وكيف نتصدّى لها أخلاقيّا وقانونيّا وسياسيّا؟ من أجل «أن ندرج اللاممكن في سجلّ الممكن» حيث العالم «يتغيّر» وفلسطين تتصدّر المشهد.
*كاتب من تونس