
المسار الاخباري: صوت أحمد مناصرة خلال التحقيق الأول الذي أجري معه بعد اعتقاله بتهمة محاولة تنفيذ عملية طعن لا تغادر الذاكرة، فبينما كان المحقق، الوحش البشري، يضرب الطاولة ويصرخ مطالباً الطفل بالاعتراف، بينما أحمد ينشج بالبكاء: لا أعرف ولا اتذكر، قبل أن يقوده عقله الطفل إلى الاعتراف بما لا يتذكر، علَّ اعترافه يوقف مهزلة التحقيق قائلا: كل ما تقوله عني صحيح، لكني لا أعرف ولا أتذكر.
أحمد بعد عشر سنوات من الاعتقال لا زال لا يعرف ولا يتذكر، بغض النظر عن ما يعرف أو يتذكر؛ أصبح له ملف خاص وتصنيف جديد، واستُبدِل اسمه برقم له وقع خاص..ودون أن يدري وضع الصغير أحمد حجر أساسٍ جديد لشخصيته، تبدأ القصة من رقم قميصه البني الداكن ومن سنوات الحكم العشر التي حُكِم بها، عقوبة له عن ما لا يعرفه أو يتذكره، بما لا يقل عن عشر سنوات، دخل السجن طفلا وغادره شاباً هربت منه الطفولة.
انضم الصغير إلى قائمة طويلة من الأسرى الأطفال، بعرف قانون الاحتلال أحمد لم يعد قاصراً..فالاحتلال يراجع قوانينه ويحصنها بالمزيد من المخالب والأسنان، ليتمكن من محاكمة أمثال أحمد كشخص بالغ ومسؤول عن أفعاله. انهم لا يتوقفون عن تطوير وتحديث آليّات كيّ الوعي..
أجتهدت مصلحة السجون في التعامل مع أحمد، فرغت كل ما بجعبتها من الوحشية على ضآلة الطفل، تدخل الأعوام الثلاثة عشرة في عملية تعذيب مستمرة من قبل هواة التعذيب وتنفيذ تعليمات الوحدة المتخصصة بالتعذيب النفسي والعصبي في مصلحة السجون، العزل في زنزانة انفرادية مليئة بالحشرات والزواحف، ووقت ثقيل الوطأة يمشي ببطئ، إلى ماذا تقود العزلة عقل يبلغ من العمر ثلاثة عشرة عاما؟!
أحمد الصغير أصبح بطلا، كما كل أطفال فلسطين، على حين غرة يصبحون أبطالاً في بيئة تصنع الأبطال، بيئة حرق المراحل والقفز من فوقها، يحرق أحمد مرحلته الخاصة فتأكله ألسنتها، ويقفز من فوق سنين عمره فيقفز الزمن من فوقه ملتهماً طفولته كاملة، بقي أحمد طفلاً لكنه يُعاقب كالكبار وضمن قوانينهم.
أحمد ليس بطلاً أو ساحراً، وعلى الأرجح قام بمغامرة صغيرة في مناخ فلسطيني دفعه إلى السجن رابطاً مصيره بمصير البلد، وأصبح مرغماً على استكمال بعض عمره بين القضبان الحديدية وسلاسل الطفولة، قبل أن يفهم تشعبات وتفرعات ما أقدم عليه، في قلب ومكان الشغف الفلسطيني الكبير، المدرسة التي تخرج منها حتى اليوم ما لا يقل عن مليون فلسطيني منذ الاحتلال.
تم خطف طفولة أحمد، وكل خطف للطفولة هو اهانة للحياة، للنفس، للكرامة الإنسانية في معانيها البديهية البسيطة، وفي المعتقلات الاسرائيلية، لا قيمة لاتفاقية جنيف الخاصة بالأسرى أو غيرها من اتفاقيات ونصوص مبدئية في القانون الدولي، انها المعضلة التي تواجه الوثائق الحقوقية وتفرغها من مضمونها.
أحمد المناصرة، تحرر شاباً من قيود الاحتلال، لكنه لا زال مقيدا إلى طفولته، أو انه انتقل إلى محطة جديدة واعدة، يتعين عليه فيها استرجاع عيونه الزائغة، وأن عليه أن يتذكر جيدا ما مر به حتى يستطيع تجاوزه والقفز عنه..
أهلا بك بين أهلك وشعبك الذين انتظروك وتابعوا أخبارك بشغف لم يحظ به أي أسير محرر، على الجميع مساعدة أحمد في رحلة الاستشفاء من جراحه المادية والمعنوية، إعانته في التوقف عن انتظار مرور الوقت في الغرف المغلقة، واسترجاع عيونه الزائغة، منتبهين إلى أن بعض الجراح لا تطيب، وبعض العيون لا تعود إلى مكانها، وبعض العطب لا يتصلح.